رغم موسم الكريسماس ورأس السنة وعيد الميلاد فإن حالة الاقتصاد العالمي لا تترك لنا فرصة للشعور بالسعادة فالائتمان ينكمش وأسعار الاصول تهبط والطلب العالمي يذبل وإذا كانت البلدان الغنية تواجه جميعها أشرس ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية فإن الأحوال تتدهور بسرعة أيضا في الاقتصادات الناشئة التي ابتليت بتراجع الصادرات وجفاف التدفقات المالية الأجنبية عليها. ولا شك أن اقدام بنك الاحتياط الأمريكي منذ أيام علي خفض سعر الفائدة إلي الصفر يكشف عن مدي الخوف الذي يشعر به صناع السياسة في الولاياتالمتحدة. وتعليقا علي هذه الأحوال كلها تقول مجلة "الايكونوميست" إن الأنباء التي نسمعها باتت سيئة بما فيه الكفاية كما أنها تمثل تهديدا هائلا لفكرة الاسواق الحرة في زمن العولمة وعلي نحو غير مسبوق فلأول مرة منذ أكثر من عشر سنوات تتعطل آلات التكامل العالمي وفي مقدمتهاالتجارة وتدفقات رءوس الأموال ويقول البنك الدولي إن تدفقات رأس المال الخاص إلي الاسواق الناشئة خلال عام 2009 لن تتجاوز نصف الرقم القياسي الذي حققته في عالم 2007 وهو مليار دولار أما حجم التجارة العالمية فإنه سوق يتقلص بنسبة 2% علي الأقل خلال العام نفسه وذلك للمرة الأولي منذ عام 1982. والمؤكد أن هذين التحولين سيفرضان مواءمات مؤلمة فالبلدان التي كان تعتمد علي التصتدير من أجل تسريع النمو من الصين إلي ألمانيا سوف تسقط مالم تقم بتنشيط الطلب الداخلي بسرعة كما أن نقص تدفقات رءوس الأموال الخاصة يعني أن الاقتصادات الناشئة ذات العجز في ميزانها الحسابي ستواصل جفافا ماليا إلي جانب نقص عوائد الصادرات. وهنا يلوح خطر تحول الحكومات في شدتها القاسية هذه إلي صديق قديم ولكنه مزيف وهو "الحمائية" أو مذهب حماية الإنتاج الوطني عن طريق فرض رسوم جمركية عالية علي الواردات، فالتكامل يصبح أقل جاذبية عندما يكون الألم وليس الرخاء وهو ما يأتينا عبر الحدود وسوف يكون أمرا مغريا أو ندعم زيادة الوظائف والدخول المحلية بجذب الطلب الخارجي عن طريق دعم الصادرات وإقامة الاسوار الجمركية وخفض قيمة العملة. ومع ذلك فإن دروس التاريخ واضحة فالانعزالية الاقتصادية التي اتبعت فيها أمريكا خلال الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي كثفت من قسوة الكساد. ومن المؤكد أن منظمة التجارة العالمية وقوانينها متعددة الاطراف تلعب دور الحصن المنيع ضد هذا النوع من الحمائية المفرطة. ولكن الاقتصاد المعولم في الزمن الراهن يمكن أن تفسده سياسات حمائية أقل افراطا من تلك التي اتبعتها الولاياتالمتحدة تعانون "سموت هاولي" الشهير خلال الكساد الكبير فأي انحراف متواضع عن سياسة الانفتاح حتي لو تم في إطار قواعد منظمة التجارة العالمية سيجعل من ركود عام 2009 شيئا خطيرا جدا ومؤذيا وللأسف فإن الحماية التدريجية من هذا النوع الأخير قد أصبحت موضع ترحيب من الجميع. والملاحظ الآن أن السياسيين من واشنطن حتي بكين يندفعون لمساندة الصناعات التي تعاني من اضطراب بغض النظر عن تأثير ذلك علي التجارة فالدعم الأمريكي لصناعة السيارات هو خرق لقواعد منظمة التجارة العالمية وبالمقابل فإن الصين قد وعدت بأشكال متنوعة من الدعم لمصدريها ولصناعها من صناعة المنسوجات إلي صناعة الصلب وبما أن الدعم يجر الدعم فإن أوروبا لن تتأخركثيرا في دخول هذا السباق. وتقول مجلة "الايكونوميست" إن خفض قيمة العملة هو شكل آخر من أشكال الدعم وأسلوب حمائي لا تتورع بكين عن اتباعه علي الرغم من تصريحات قادتها بعدم خفض قيمة اليوان.. وأمام هذا الحشد من الظواهر المقلقة يتساءل كل مؤمن بحرية التجارة العالمية وجدواها لصالح الجميع: ما العمل؟ والرد ببساطة هو أن العالم يحتاج إلي قيادة سياسية مستنيرة وخاصة من جانب الولاياتالمتحدة والصين كذلك فإن إنجاح الحوار حول اتفاقية الدوحة سوف يساعد أما الأمر الثالث فهو حاجة العالم إلي الوضوح والشفافية وهنا يتعين علي منظمة التجارة العالمية أن تعلن عن أية إجراءات حمائية سواء أكانت تعد خرقا لقواعد هذه المنظمة أم تتم في إطار هذه القواعد المسموح بها. سيبقي أن نقول إن أكبر ضمان ضد الحمائية هو محفزات الاقتصاد الكلي وزيادة الطلب الداخلي في كل دولة.. ورغم أن دول العالم عموما تعمل علي هذين العاملين إلا أن الأمر يحتاج إلي مزيد من الجهود في شأنهما لأن ما تم فعله حتي الآن غير كاف لمنع الركود العالمي من التحول إلي كساد كبير جديد.