شهدت بورصات العالم كله تقلبات حادة خلال الأسابيع الأخيرة ففي بورصة نيويورك كان هناك سباق بين اتجاه مؤشر داو جونز إلي الانخفاض وبين قدرة بنك الاحتياط الفيدرالي علي اتخاذ قرارات سريعة بخفض أسعار الفائدة علي أمل وقف هذا الاتجاه إلي الهبوط.. وفي الأسواق الناشئة أصيبت بورصات الصين والهند بنفس الاهتزازات المجنونة أما في منتدي دافوس فقد سيطرت مناقشات أحوال البورصات العالمية علي ما عداها من مناقشات وتقول مجلة "نيوزويك" انه في ظل هذا المناخ غير المستقر تساءل الناس: هل دخلت الولاياتالمتحدة بالفعل حالة الركود؟ وهل ستتقلص فرص العمل الجديدة التي يخلقها الاقتصاد الأمريكي؟ وهل ستواصل الأسعار ارتفاعها وتستمر قيمة الدولار في الانخفاض؟ والحقيقة ان هناك من الشواهد ما يؤكد دخول الاقتصاد الأمريكي مرحلة الركود وفي مقدمة هذه الشواهد منحة المردودات الضريبية البالغ قيمتها 150 مليار دولار التي قدمها الرئيس الأمريكي والكونجرس علي أمل زيادة انفاق المستهلكين وقرارات بنك الاحتياط الفيدرالي بخفض سعر الفائدة وبنسبة ليس لها مثيل منذ قرابة ربع قرن.. وهكذا يصبح السؤال ليس عن وجود الركود من عدمه وإنما عن مدي ضراوة هذا الركود وموعد انتهائه؟ فأرقام شهر ديسمبر الخاصة بفرص العمل ومبيعات التجزئة تؤكد ان الاقتصاد الأمريكي قد دخل مرحلة الجمود.. وفي عصر العولمة يحق لنا ان نتوجس من احتمال أن يؤدي الركود الأمريكي إلي اجهاض النمو المزدهر الذي تشهده الأسواق الناشئة مثل الهند والصين وإلي قلب أوضاع الاقتصادات الأوروبية ووضعها علي حافة المنحدر. ويقول نورييل روبيني أستاذ الاقتصاد في كلية تجارة شتيرن التابعة لجامعة نيويورك اننا قد نكون واقفين الآن علي حافة حالة من الركود العالمي العظيم تشبه ما مر به العالم في عام 1929 أي منذ 79 سنة تقريبا وعلينا ان نحلل الأوضاع بشكل ممنهج لكي نعرف مواضع اقدامنا علي وجه اليقين وعموما فإن علامات الاستفهام تبدو كثيرة ومحيرة كما أن اجاباتها لن تتضح إلا بعد عام كامل من الآن أي في بداية العام القادم 2009. وعموما فإن هناك ما يدل علي إننا نعيش الآن نوعا من الازدواجية الاقتصادية علي المستوي العالمي فالولاياتالمتحدة تدخل مرحلة الركود في حين يوجد من المؤشرات ما يدل علي ان الأسواق الناشئة لن تتأثر كثيرا بهذا الركود الأمريكي.. وبعبارة أخري فنحن إزاء قطبين في الاقتصاد العالمي لكل منهما قوانينه الداخلية التي تتحكم في حركته الاقتصادية من دون أن يتأثر كثيرا بما يحدث في القطب الآخر صحيح ان ضخامة حجم التجارة بين القطبين والحرية المتاحة لحركة رأس المال وزيادة التداخل الاقتصادي بينهما يجعل البورصات تتحرك حركة متشابهة وتنتقل فيما بينها عدوي التقلبات ولكن حركة بقية القطاعات الاقتصادية تسير علي نحو مختلف. ويقول جيمس أوينز رئيس مجلس إدارة شركة كاتربيللر الأمريكية ان هناك حالة من فك الارتباط بين الولاياتالمتحدة وبقية العالم.. ففي حين يضعف الطلب في الولاياتالمتحدة نجد أن بقية العالم خاصة أمريكا الجنوبية وآسيا وروسيا وشرق أوروبا لديها حركة صادرات سلعية قوية.. كما ان حالة الاقتصاد في هذه المناطق حالة جيدة وفوق ذلك فلم تعد شركات تلك البلدان تعتمد علي التمويل الأمريكي في شراء ما تحتاجه من آلات ومعدات.. ويبدو الأمر كما لو كانت الولاياتالمتحدة لا تساهم كثيرا في تحقيق النمو العالمي. وهذا هو كامال ناث وزير تجارة الهند يؤكد أن النمو الهندي لا يعتمد علي الصادرات وإنما علي الطلب الداخلي وان الصين حلت محل الولاياتالمتحدة كأكبر شريك تجاري للهند والصادرات علي أهميتها لا تمثل سوي 23% من اجمالي الناتج المحلي الهندي وحدوث ركود أمريكي لن يخفض بمعدل النمو الهندي إلا بمقدار 5.0% وذلك حسب تقدير شانكار اتشاريا الخبير الاقتصادي في مجلس الابحاث الهندي.. ويتكرر نفس الموقف من الاقتصاديين الصينيين الذين يؤكدون أن حدوث قدر من التباطؤ في النمو سيفيد الاقتصاد الصيني الذي يعاني من سخونة زائدة ولكن معدل النمو في 2008 لن يقل عن 9 -10% بدلا من 11% كما كان في العام الماضي فالصين لا تصدر الي أمريكا وحدها وإنما تصدر إلي العالم كله كما أن السوق الصيني آخذ في الاتساع ويمكنه مع نمو الطبقة المتوسطة واتساعها أن يستوعب كثيرا من الانتاج الموجه إلي التصدير. وبالطبع فإن هناك من يرفضون فكرة القطبين ويستبعدون فك الارتباك بين الولاياتالمتحدة وبقية العالم ولكن الشيء الذي لا يمكن أن ينكره أحد الآن هو أن الولاياتالمتحدة هي التي صارت أسيرة للأجانب فهم الذين يقرضون أمريكا ويمولون ما تعانيه من عجز في ميزان المدفوعات اكثر من ذلك فإن الصادرات الأمريكية زادت من 980 مليار دولار عام 2002 لتصبح 1.62 تريليون دولار في العام الماضي أي بنسبة 65% في خمس سنوات ومع ذلك فإن الزيادة في الصادرات لم تحم الاقتصاد الأمريكي أخيرا من الركود واضطر ساسة واشنطن إلي حقن الطلب الأمريكي بنحو 150 مليار دولار "100 مليار للأسر و50 مليارا للشركات" في محاولة للحد من عمق الركود المنتظر أو تفاديه علي الإطلاق إذا كان ذلك ممكنا.