كتب : د محمد العريان .. خبير اقتصادى دولى من اصل مصرى - مايكل سينس .. حائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد علي مدي العامين الماضيين شهدت البلدان الصناعية نوبات حادة من عدم الاستقرار المالي.. وفي الوقت الحالي، تتصارع هذه البلدان مع مشكلات الديون السيادية المتعاظمة وارتفاع مستويات البطالة.. ورغم ذلك فإن الاقتصاد في الاسواق الناشئة، التي كانت تعتبر ذات يوم أكثر عُرضة للخطر، كان قادراً علي المقاومة بشكل ملحوظ.. ومع عودة النمو إلي مستويات ما قبل اندلاع الأزمة في عام 2008، فإن أداء الصين والهند والبرازيل يعد محركا بالغ الأهمية لتوسع الاقتصاد العالمي اليوم. إن مستويات النمو المرتفعة والاستقرار المالي في الاسواق الناشئة من الأمور التي تساعد في تيسير عملية التقويم والتصحيح الهائلة التي تواجه البلدان الصناعية.. بيد أن ذلك النمو يحمل في طياته عواقب مهمة بعيدة الأمد.. وإذا تسني لهذه البلدان الحفاظ علي نمط النمو الحالي فإن الاقتصاد العالمي سوف يشهد تحولا دائما.. والأمر لا يحتاج إلي أكثر من عقد من الزمان علي وجه التحديد لكي تتجاوز حصة البلدان ذات الاقتصاد النامي في الناتج المحلي الاجمالي العالمي 50% إذا ما قيست تلك الحصة بأسعار السوق. لذا فمن الأهمية بمكان أن نعرف ما إذا كانت مرحلة النمو الجامحة هذه مستدامة.. والاجابة عن هذا السؤال تتألف من جزءين. الجزء الأول يعتمد علي قدرة البلدان ذات الاقتصاد الناشئ علي إدارة نجاحها علي النحو اللائق، والجزء الثاني يرتبط بمدي قدرة الاقتصاد العالمي علي استيعاب هذا النجاح.. والواقع أن الاجابة عن السؤال الأول تبعث علي الاطمئنان، أما إجابة السؤال الثاني فليست مطمئنة. ففي حين مايزال بوسع البلدان ذات الاقتصاد الناشئ أن تستغل كامل نطاق هذا النمو السريع المفاجئ، فإنها لابد وأن تتبني تغييرات هيكلية مستمرة وسريعة وشديدة الصعوبة في بعض الاحيان، هذا إلي جانب تبني عملية موازية من الاصلاح وبناء المؤسسات.. والواقع أن البلدان التي تشكل أهمية شاملة للنظام العالمي نجحت في الأعوام الأخيرة في تأسيس سجل مبهر من التكيف العملي والمرن.. ومن المرجح أن يستمر هذا النجاح. مع استمرار السياسات الحكومية علي المسار الصحيح، ينبغي لنا أن نتوقع زيادة تدريجية في قوة محركات النمو المحلي في البلدان ذات الاقتصاد الناشئ، والتي تستند الي طبقة متوسطة متزايدة الاتساع.. وإذا أضفنا إلي ذلك زيادة أحجام التجارة بين هذه البلدان، فسوف يتبين لنا أن مستقبل البلدان ذات الاقتصاد الناشئ سوف يتميز بتضاؤل الاعتماد علي الطلب في البلدان الصناعية، وإن كان الانفصال الكامل غير مرجح. وهنا يشكل التوزيع، إلي جانب النمو، أهمية بالغة.. ذلك أن البلدان ذات الاقتصاد الناشئ مازالت في حاجة ماسة الي تبني توجهات أفضل في إدارة التوترات المحلية المتنامية، التي تنعكس في التفاوت المتزايد في الدخول وعدم المساواة في القدرة علي الوصول الي الخدمات الأساسية.. والفشل علي هذه الجبهة من شأنه أن يؤدي الي عرقلة الديناميكيات التي تكفل تعزيز قوة النمو المحلي والاقليمي.. ونستطيع أن نفهم هذه المسألة علي نحو أفضل اليوم، حيث بدأت حكومات البلدان الناشئة في وضع الجوانب المتصلة بالتوزيع من استراتيجية النمو في مرتبة عالية علي أجنداتها السياسية. ورغم أن البلدان ذات الاقتصاد الناشئ قادرة علي التعامل مع التباطؤ الاقتصادي في البلدان الصناعية، فإن آليات التحويل المستخدمة في القطاع المالي تشكل تحدياً أعظم.. إن بيئة اليوم التي تتسم بانخفاض أسعار الفائدة كانت سببا في إحداث سيل من التدفقات المالية الي البلدان الناشئة، الأمر الذي أدي إلي ارتفاع مخاطر التضخم ونشوء فقاعات الأصول.. والواقع أن السقطات التي ارتكبتها البنوك الغربية ساعدت في عرقلة توفر الائتمان التجاري، وإذا تضخمت هذه السقطات فقد تؤدي الي زعزعة استقرار البنوك المحلية. إن المخاطر حقيقية.. ولكن من حسن الحظ أن العديد من البلدان الناشئة مستمرة في الاستعانة بسبل تخفيف الصدمات.. فقد دخلت هذه البلدان أزمة 20082009 في ظل ظروف أولية سليمة (بما في ذلك الاحتياطيات الدولية الضخمة، والفوائض في الموازنات وموازين المدفوعات، والبنوك ذات التمويل الضخم) وهذا يعني أنها بعيدة كل البعد عن استنفاد مرونتها الضريبية والمالية وبالتالي قدرتها علي الاستجابة للصدمات في المستقبل. الواقع أن البلدان ذات الاقتصاد الناشئ في الاجمال في موقف يسمح لها بالاستمرار في الابحار بنجاح عبر بحر من عدم الاستقرار الناتج عن الأزمة في البلدان الصناعية.. ولكن نستطيع أن نؤكد مرة أخري أن الانفصال غير تام.. فالنتيجة الايجابية تتطلب أيضا قدرة البلدان الصناعية ورغبتها في استيعاب الحجم المتزايد الذي اكتسبته البلدان ذات الاقتصاد الناشئ.. والمخاطر هنا كبيرة، وتشير الي مجموعة واسعة من المشاكل المحتملة. إن تدفق المعرفة، والتمويل، والتكنولوجيا التي تشكل الاساس لاستمرار معدلات النمو المرتفعة في البلدان ذات الاقتصاد الناشئ، كل ذلك يرتبط ارتباطا وثيقا بوجود اقتصاد عالمي يستند إلي قواعد ثابتة وتحكمه العولمة.. بيد أن هذا البناء العالمي يتأتي تحت ضغوط شديدة في بيئة حيث تعاني البلدان المتقدمة من ارتفاع معدلات البطالة ونوبات عنيدة من التقلبات المالية.. إن موقع النمو في الاقتصاد العالمي يجعلنا ننظر إليه باعتباره لعبة يتساوي فيها حجم المكسب مع الخسارة، الأمر الذي يؤدي إلي ردود فعل دون المستوي الأمثل. ونتيجة لهذا فلا يجوز لنا أن نعتبر استمرار انفتاح أسواق البلدان الصناعية أمرا مفروغاً منه.. فقد أصبح السرد السياسي والخططي هناك أكثر استغراقا في المحلية وأضيق أفقا، في حين تواجه الاجندة العالمية والمصالح العالمية المشتركة قدرا متزايدا من التجاهل. ومن المرجح أن تنمو مثل هذه التحديات في الأعوام المقبلة.. ثم هناك مسألة المؤسسات العالمية والحوكمة. وتشكل إدارة مجموعة متنامية ومتزايدة التعقيد من الارتباطات عبر الوطنية تحدياً أعظم خطراً في عالم انقلب رأسا علي عقب ويتسم بسرعات متعددة.. ومثل هذا العالم يتطلب تحسين الادارة العالمية، فضلا عن الاصلاحات المؤسسية التي طال انتظارها والتي من شأنها أن تعطي البلدان ذات الاقتصاد الناشئ الصوت اللائق بها والتمثيل الذي تستحقه في المؤسسات الدولية. وفي غياب مثل هذه التغييرات فإن الاقتصاد العالمي قد يقفز من أزمة إلي أخري من دون يد ثابتة علي الدفة تسمح له بتكوين حس كامل بالاتجاه.. وهذا من شأنه أن يؤدي الي ما يطلق عليه خبراء الاقتصاد «توازن ناشئ» سلسلة من النتائج شبه التعاونية ودون المستوي الأمثل. ولكن إلي أين يقودها كل هذا؟