أصيب العالم في السنوات العشر الأخيرة باختلالات اقتصادية متزايدة وخاصة العجز في الميزان الحسابي الأمريكي والفائض في الميزان الحسابي الصيني وهما الأكبر من نوعهما في مختلف دول العالم. ورغم سوء الأوضاع الاقتصادية العالمية في الوقت الراهن إلا أن لها ميزة يمكن ملاحظتها وهي الاتجاه إلي تصحيح هذه الاختلالات الكبري. فالعجز التجاري الأمريكي يتراجع وكذلك الفائض التجاري الصيني يتراجع هو الآخر. وتقول مجلة "الايكونوميست" إنه لأول مرة منذ سنوات يصبح نمو الصادرات الصينية أبطأ من نمو الصادرات الأمريكية خلال الاثني عشر شهرا الأخيرة حتي يونية الماضي. وتقول الارقام المتاحة عن هذه الفترة إن قيمة الصادرات الأمريكية زادت بمعدل 23% سنويا في حيث لم تتجاوز زيادة الصادرات الصينية 17% خلال العام المذكور مقومة بالدولار كذلك فإن حجم صادرات البلدين يظهر نفس الاتجاهات ففي الربع الثاني من العام زادت الصادرات الصينية 11% من حيث الحجم في حين زاد حجم الصادرات الأمريكية 12% ومن جانبه فإن ستيفن جرير الخبير الاقتصادي في بنك ستاندارد تشارترد يتوقع أن ينخفض النمو الحقيقي في الصادرات الصينية إلي الصفر مع نهاية العام الحالي وأن تبدأ هذه الصادرات في التناقص اعتبارا من العام القادم 2009. ورغم أن الصادرات الصينية زادت في يولية الماضي بنسبة 27% بما كانت عليه في يولية 2007 إلا أن التذبذب في الأرقام الشهرية للصادرات يجعلنا لا نعتمد علي بيانات شهر واحد. أضف إلي ذلك أن حساب قيمة الصادرات الصينية باليوان وليس بالدولار سيعني انخفاض معدل نمو هذه الصادرات في الشهور الثلاثة الأخيرة إلي 12% فقط بعد أن كان المعدل 35% في ذات الشهور الثلاثة من عام 2005. وبالمقابل فإن واردات الصين تزيد بسرعة أكبر في العام الأخير حتي أن قيمة الفائض التجاري الصيني في الشهور السبعة الأولي من عام 2008 أقل بنسبة 20% عما كانت عليه في نفس الفترة من عام 2007 مقومة باليوان. ولا يعني ذلك كله إننا نتوقع حدوث انخفاض كبير في فائض الميزان الحسابي الصيني هذا العام عن العام السابق بل الأرجح أن تكون قيمة الفائض متقاربة في العامين وذلك بسبب ارتفاع عائدات الصين من استثماراتها في الخارج. ولكن قيمة هذا الفائض كنسبة من إجمالي الناتج المحلي سوف تتراجع كثيرا بسبب سرعة النمو الاقتصادي في الصين. ويتوقع جرير أن تكون نسبة الفائض في 2008 نحو 9% من إجمالي الناتج المحلي وأن تنخفض إلي 7% فقط في عام 2009 في حين أنها كانت 11.3% في عام 2007. وهذا سيتيح للصين أن تقول إن فائضها التجاري يتراجع ولكن الصحيح أن تراجع قيمته يظهر عندما يتم تقويم المؤشرات الصينية بالدولار وليس باليوان. وإذا انتقلنا إلي الولاياتالمتحدة سنجد أن التراجع فيما تعانيه من عجز تجاري لايزال تراجعا متواضعا وذلك بسبب ارتفاع تكاليف وارداتها من البترول. ولو استبعدنا الواردات البترولية سنجد أن العجز التجاري الأمريكي انخفض بنسبة 25% منذ عام 2006. وفي الوقت الذي تصاعدت فيه الصادرات الأمريكية بقوة هبطت الواردات 2% في العام المنتهي في يونية الماضي وذلك بسبب انخفاض الطلب الأمريكي الداخلي. وإذا استمر اتجاه الهبوط الحالي في أسعار البترول فإن العجز التجاري الأمريكي سيقل في النصف الثاني من 2008 بنسبة تفوق ما حدث فيه من انخفاض خلال النصف الأول من العام. وعلي وجه الإجمالي فإن العجز في الميزان الحسابي الأمريكي انخفض ليصبح 5% من إجمالي الناتج المحلي أخيرا بعد أن كان قد بلغ ذروته في الربع الثالث من 2006 ليصبح 6.2% من إجمالي الناتج المحلي. وتتوقع ميريل لينش أن ينخفض هذا العجز ليصبح 3.5% فقط من إجمالي الناتج المحلي في عام 2009. وعلي مستوي العلاقات الثنائية نجد أن الصادرات الأمريكية إلي الصين قد زادت 20% خلال النصف الأولي من عام 2008 مقارنة بما كانت عليه في النصف الأول من 2007 في حين أن الواردات الأمريكية من الصين لم تزد إلا بنسبة 4% فقط خلال نفس الفترة المقارنة. ومع ذلك فإن هذا التطور لم يلغي العجز التجاري الأمريكي لصالح الصين لأن واردات أمريكا من الصين تبلغ قيمتها أربعة أضعاف قيمة الصادرات الأمريكية. والسؤال المهم هو: ما الذي أحدث اذن هذه التحولات؟ تقول مجلة "الايكونوميست" إن انخفاض قيمة الدولار هي العامل الأول والاساسي لأنه جعل الصادرات الأمريكية أكثر تنافسية ولكن استكمال الطريق للقضاء علي هذه الاختلالات كليا يتطلب عناصر أخري في مقدمتها دون شك إلا تنفرد الاسواق الناشئة بمعدلات نمو مرتفعة في حين تفرق الاقتصادات المتقدمة في الركود ولا تنمو إلا بمعدلات ضعيفة للغاية.