جاءت قمة مجموعة العشرين الأخيرة في وقت يواجه فيه الاقتصاد الرأسمالي العالمي موجة ثانية من الأزمة المالية والاقتصادية العملاقة أو الكساد العظيم الثاني, حيث تواجه الدول الرأسمالية في أوروبا اختلالا ماليا خطيرا, تسبب في أزمة كبيرة في اليونان, ووضع البرتغال وإسبانيا علي شفا هاوية الأزمة, وأنذر باقي الدول الأوروبية بأنها يمكن أن تدخل نفقا مظلما وأن تفقد مشروعها ووحدتها النقدية وحلمها الأوروبي الواحد إذا لم تصحح اختلالاتها المالية. ومن قلب هذه الأزمة التي ضربت القارة العجوز, انطلق موقف أوروبي مختلف مع الولاياتالمتحدة بشأن آليات استكمال مواجهة الأزمة الاقتصادية العالمية, فأوروبا التي تعاني عجزا في موازناتها العامة بما يتجاوز كل حدود الأمان, طرحت علي قمة العشرين برامجها التقشفية أو الانكماشية لتقليل الإنفاق العام رغم ما سيؤدي إليه من تباطؤ أو حتي ركود اقتصادي سيترافق معه علي الأرجح زيادة في معدلات البطالة, باعتبار أن هذه البرامج التقشفية, آلية للسيطرة علي الاختلال المالي الكبير فيها باعتباره الأولوية الأولي لهذه المنطقة التي ارتفع عجز الموازنة العامة للدولة فيها بشكل هائل ليبلغ في العام الحالي(2010), نحو7% من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو في مجملها, ونحو10.5% في بريطانيا, ونحو9.9% في اليونان وإسبانيا, ونحو8.4% في فرنسا, ونحو6.2% في هولندا, ونحو5.5% في ألمانيا, ونحو5.1% في إيطاليا, علما بأن سقف العجز المسموح به في الموازنة العامة للدولة في منطقة اليورو هو3% من الناتج المحلي الإجمالي, بما يعني أن الغالبية الساحقة من دول الاتحاد قد تجاوزت هذا المعدل بأكثر من الضعف. وقد تركزت البرامج التقشفية الأوروبية علي تجميد الإنفاق العام لعدة اعوام, أو حتي تخفيضه كما هو الحال في اليونان. وبالمقابل فإن الولاياتالمتحدةالأمريكية التي تعودت وتعايشت تاريخيا مع وجود عجز كبير في الموازنة العامة للدولة منذ أربعة عقود لم ينقطع إلا في العامين الأخيرين من عهد بيل كلينتون والعام الأول من عهد بوش الابن, ترفض خطة التقشف الأوروبية, وتري أنها ستقود إلي عودة الركود ليس في أوروبا وحدها ولكن في الاقتصاد العالمي المأزوم والذي يتحرك ببطء ويبدو في وضع هش لا يحتمل مثل هذه الإجراءات الأوروبية التي ستؤدي إلي جمود أو حتي تراجع الواردات الأوروبية من السلع والخدمات من الشركاء التجاريين لأوروبا, بما يسهم في تباطؤ أو حتي ركود اقتصادات هؤلاء الشركاء التجاريين. وهذه الأفكار الأمريكية لا تنطلق من تمتع الولاياتالمتحدة بحالة من التوازن المالي, لأنها هي الأخري تعاني عجزا كبيرا في الموازنة العامة للدولة بلغ قرابة1.5 تريليون دولار في العام المالي الماضي, وسيصل إلي8.8% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي في العام المالي الراهن. وبالتالي فإن الأفكار الأمريكية تبدو أكثر ولاء لفكرة الدور الرئيسي للدولة الرأسمالية في إخراج الاقتصاد الرأسمالي من أزمته حتي ولو بأموال دافعي الضرائب. كما أن الولاياتالمتحدة عندما تتعرض لعجز الموازنة العامة للدولة, لا تعاني بنفس القدر الذي تعانيه الدول الأوروربية عندما تتعرض لنفس العجز, حيث تستغل الولاياتالمتحدةالأمريكية, وضعية الدولار كعملة احتياط دولية تتم تسوية الالتزامات الدولية من خلالها في القسم الأكبر من التعاملات الاقتصادية الدولية, لتفرط في الإصدار النقدي بدون غطاء ذهبي أو إنتاجي, وتستخدم أوراقا نقدية لا تكلفها أكثر من طباعتها في الحفاظ علي قدرتها علي تسوية التزاماتها. وهو ما يطرح الجدل مجددا حول جدارة حيازة الدولار لوضعية عملة الاحتياط الدولية مجددا, والتي كانت آية انتصار الولاياتالمتحدة في الحرب العالمية الثانية, بإقرار الدولار كعملة احتياط دولية وإحباط الجهود المعاكسة التي قامت بها بريطانيا ومثلها فيها الاقتصادي البريطاني الكبير جون مينارد كينز الذي كان يحاول طرح نموذج نقدي دولي مغاير يقوم علي عملة احتياط دولية يشرف علي إصدارها صندوق النقد الدولي, وهو ما تطالب به الكثير من دول العالم حاليا, خاصة في ظل استخدام الولاياتالمتحدة لوضعية الدولار كعملة احتياط دولية, في التوسع في الإصدار النقدي بلا غطاء إنتاجي أو ذهبي, لتحقيق الثراء علي حساب العالم. وعلي سبيل المثال بلغ معدل نمو المعروض من النقود وأشباه النقود في الولاياتالمتحدة نحو9.4% عام2008, في حين لم يتجاوز معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي نحو0.4% في العام المذكور. لكن وعلي قدر أهمية قضية كبح الإنفاق العام للسيطرة علي اختلال الموازنة العامة للدولة, أو التوسع في هذا الإنفاق لحفز النمو الاقتصادي, فإن هيكل هذا الإنفاق يتسم بنفس الأهمية ويوضح بصورة أو بأخري, كيف يتم التصرف في أموال دافعي الضرائب, وهل تستخدم هذه الأموال في إنعاش الاقتصاد وخلق فرص العمل, أم في مساندة الرأسمالية المتعثرة بسبب أنانيتها ولجوئها لأنشطة المضاربة والتحايل, والإفراط في الإنفاق العسكري وفي التدخلات الخارجية لإنعاش غول المجمع الصناعي-العسكري. وحسب التقرير السنوي لمعهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام, فإن الإنفاق العسكري في أنحاء العالم بلغ أعلي مستوي ليصل إلي1.5 تريليون دولار في العام2009, مقارنة بنحو1416 مليار دولار عام2008, وذلك علي الرغم من التدهور الاقتصادي الناجم عن الأزمة المالية والاقتصادية الأمريكية والعالمية, مما يشير إلي أن جزءا مهما من الزيادة في الإنفاق العام في بعض الدول, وعلي رأسها الولاياتالمتحدة قد ذهب لتمويل التوسع في الإنفاق العسكري الهائل أصلا. وحسب التقرير فإن الإنفاق العسكري في العام2009 سجل ارتفاعا حقيقيا بلغت نسبته5.9% مقارنة بعام2008, وأن الزيادة الأضخم حدثت في الولاياتالمتحدةالولاياتالمتحدة التي ارتفع فيها الإنفاق العسكري بنسبة7.7% أي بأكثر من47 مليار دولار ليبلغ661 مليار دولار عام2009. وعلي أية حال فقد تم الاتفاق علي أن تخفض الدول الأعضاء في مجموعة العشرين, العجز في ميزانيتها العامة للنصف خلال ثلاثة أعوام, مع التأكيد علي أن تخفيض العجز يجب أن يحدد علي أساس تجنب الإضرار بالنمو وستصحبه إصلاحات أخري من أجل تقوية الاقتصاد. وقال البيان الختامي للقمة إن الأسواق الصاعدة القوية مثل الصين لابد أن تشجع حكوماتها ومواطنيها لإنفاق المزيد والاستثمار في مشاريع بينة تحتية وبناء شبكات أمان اجتماعي أفضل من أجل تحسين مستويات معيشة مواطنيها, وتطوير سياستها النقدية لتسمح بدرجة أكبر من حرية ومرونة أسعار الصرف. وفيما يتعلق بفرض ضريبة جديدة علي البنوك لاستخدام حصيلتها في مواجهة أي أزمة يتعرض لها الجهاز المصرفي, انتهي الأمر بتعهد هو أقرب لإعلان النوايا بأن يقدم القطاع المالي مساهمة عادلة لتكاليف حل الأزمات المالية, وترك لكل دولة تحديد كيفية ووقت جمع هذه المساهمة والنسبة التي ستحدد لها. وفيما يتعلق بالسيولة كنسبة من رأس المال التي ستحتفظ بها البنوك, لمواجهة الحالات الطارئة, تعهدت مجموعة العشرين بأن تفرض علي البنوك, الاحتفاظ بمقدار كبير من رأس المال لحمايتها من الصدمات الاقتصادية, وإن كانت قد أعطت للمؤسسات المالية فترة انتقالية للتكيف مع هذا الإجراء. وهكذا مضت القمة دون أن تقوم بالإصلاح المطلوب للنظام النقدي الدولي والمتمثل في تغيير هيكل رأس المال والكتل التصويتية للدول داخل صندوق النقد الدولي, حتي يتلاءم مع حقائق التغيرات في التوازن الاقتصادي العالمي التي تشير إلي صعود كبير للصين والبرازيل والهند وروسيا( مجموعة رابكRIBC), ليس من زاوية حصة كل منها في الناتج والتجارة السلعية والخدمية في العالم وفقط, ولكن في حجم الاحتياطيات الضخمة من العملات الحرة التي تحتفظ بها, والتي تتعزز في كل من الصين وروسيا بفعل استمرار الفوائض الضخمة في الميزان التجاري وميزان الحساب الجاري. كما مضت القمة دون إحداث تغيير في وضعية الدولار كعملة احتياط دولية, رغم أنه ومنذ سنوات طويلة, لم يعد ملائما له القيام بهذا الدور, بسبب تراجع حصة الناتج الأمريكي من الناتج العالمي من نحو45% بعد الحرب العالمية مباشرة, ونحو31% في آخر عهد كلينتون, إلي نحو خمس الناتج العالمي حاليا, وتراجع الولاياتالمتحدة كقوة تصديرية من المركز الأول بصادرات توازي نحو ثلث الصادرات العالمية بعد الحرب العالمية الثانية, إلي المرتبة الثالثة بعد الصين وألمانيا وبصادرات تبلغ نحو8.3% من الإجمالي العالمي حاليا. كما أن استمرار الدولار محتفظا بمكانة عملة الاحتياط الدولية لا يتسق مع العجز التجاري الأمريكي الهائل الذي بلغ حتي بعد كل جهود تخفيضه منذ تولي الرئيس أوباما مقاليد الحكم, نحو550.1 مليار دولار في الاثني عشر شهرا المنتهية في إبريل2010, كما بلغ عجز ميزان الحساب الجاري الأمريكي نحو391.9 مليار دولار في الاثني عشر شهرا المنتهية في نهاية مارس من عام2010. وهذه الموازين الخارجية الأمريكية العاجزة بصورة ضخمة لا تلائم حيازة العملة الأمريكية لوضعية عملة الاحتياط الدولية. ويبدو أن التحول في هذا الصدد, سوف يتم تدريجيا, من خلال تنويع الصين وروسيا والهند والبرازيل وغيرها من الدول لسلة احتياطياتها في اتجاه تقليل حصة الدولار فيها, ومن خلال تسوية المعاملات الدولية بعملات حرة رئيسية أخري, أو بعملات الدول المتعاملة تجاريا مع بعضها البعض, بالذات إذا كانت تلك العملات تتسم بالاستقرار والجدارة ومعززة باحتياطيات قوية لدولها.