الأزمة الاقتصادية العالمية التي تعصف بالعالم حاليا تذكرنا بما حدث أيام الكساد الكبير الذي يعرف بانه أسوأ كارثة اقتصادية عالمية عرفها التاريخ، حيث انهارت أسواق المال في وول ستريت اكتوبر 1929 الذي شكل البداية الفعلية لفترة الكساد التي امتدت لعقد من الزمن ولكن القراءة الجيدة للاحداث تكشف ان فصول الكساد تعود إلي منتصف العشرينات وتحديدا في عام ،1925 عندما بدأت أسواق الاسهم في الولاياتالمتحدةالامريكية بالارتفاع الكبير حتي بلغت القمة في سنة 1929 شجعت هذه الارتفاعات الكبيرة والمتلاحقة عامة الشعب علي الدخول إلي البورصات وشراء الاسهم طمعا في تحقيق ارباح طائلة.. ولكن جاء الانهيار سريعا مما جعل الافراد يفلسون وتتبعهم الكثير من البنوك والمؤسسات المالية إلي اعلان إفلاسها، وفقد الافراد مدخراتهم واصبحوا غير قادرين علي شراء احتياجاتهم الاساسية فضلا عن الاحتياجات الكمالية ونتيجة لذلك تكدست السلع والبضائع في المتاجر فتوقفت المصانع عن الانتاج مما أدي إلي تسريح العمال وسرعان ما انتشر الكساد في جميع أنحاء العالم خاصة في أوروبا جراء الترابط الاقتصادي بين الولاياتالمتحدةالامريكية والاقتصادات الاوروبية. ونظرا للتشابه الكبير في المقدمات بين الازمة الاقتصادية الحالية والكساد الكبير كان لابد ان نعرف كيف تم التعاطي معه وعلاج آثاره المدمرة حتي نستفيد في مواجهة إعصار الازمة المالية الحالية.. ففي 1932 ركزت الحملة الانتخابية الرئاسية الامريكية علي الاسباب والحلول الممكنة للخروج من الكساد الكبير فالطرف الأول: هربرت هوفر الرئيس الامريكي الجمهوري في ذلك الوقت حدثت كارثة الكساد بعد دخوله البيت الابيض بحوالي ثمانية أشهر فقط، والطرف الثاني: فرانكلين روزفلت المرشح الديمقراطي وحاكم نيويورك الذي هاجم الجمهوريين بشدة وأنحي باللوم علي الاقتصاد الامريكي الذي يتسم بالكثير من العيوب وطالب باستخدام السلطات الفيدرالية الحكومية لانقاذ الاقتصاد وأسفرت الانتخابات عن فوز ساحق لروزفلت الديمقراطي علي هوفر الجمهوري بعدها أعلن روزفلت عن برنامجه الاقتصادي المعروف "نيوديل" وهي خطة من الاصلاح الاجتماعي والاقتصادي المعروف لدي الاوروبيين وبداية عصر جديد في التخلي عن مبادئ آدم سميث التي كانت تنادي بعدم تدخل الدول في الاقتصاد وبداية عهد تطبيق نظرية كينز التي تسمح للحكومة بالتدخل في النشاط الاقتصادي ولكن بشكل محدود في السياسة المالية والنقدية. ونعود مرة أخري للأزمة المالية الحالية التي بدأت بوادرها إبان ولاية بوش الابن وتدهور الاقتصاد رغم كل محاولات الانقاذ التي أجراها الجمهوريون حتي جاءت الانتخابات الرئاسية الاخيرة بين أوباما الديمقراطي وماكين الجمهوري وخلالها ألقي أوباما بمسئولية الاخفاق والانهيار الاقتصادي علي كاهل الجمهوريين بسبب سياساتهم الفاشلة وأيده في ذلك تقرير لمجلة "التايم"، حيث حدد مجموعة من الاسباب والاحداث والاشخاص كان لهم دور كبير في ظهور الازمة وحسب تقرير المجلة فإن أول من جري توجيه اصابع الاتهام نحوه في الازمة الحالية المدير السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي "البنك المركزي الامريكي" آلان جرينسبان، حيث شهدت فترة ولايته الطويلة والممتدة من 1987 إلي 2006 العديد من الازمات منها انهيار اسواق المال عام 1998 وفقاعة اسهم شركات التكنولوجيا والانترنت بين 2000 إلي ،2001 حيث اتهم بانه زاد الطين بلة، بسبب رفضه المطالب بان يشدد البنك المركزي من اجراءات الرقابة والسيطرة علي قطاع الرهون العقارية الثانوية وغيرها من الوسائط المالية ذات الخطورة العالية، كما تتحمل أدوات الرقابة والتشريع المالي في الولاياتالمتحدة جزءا كبيرا من المسئولية، ففي حين جري وضع قوانين صارمة لعمل المصارف تركت المؤسسات المالية وشركات الاقراض العقاري وصناديق التحوط تعمل بحرية دون رقيب يردعها عن الدخول في مغامرات استثمارية. أما السبب الثالث فيتمثل في التحول الذي شهده النشاط المالي في الولاياتالمتحدةالامريكية، حيث تحول العمل المالي من البنوك التي تمتلك بيانات مالية تظهر الديون والموجودات إلي وول ستريت، حيث المحافظ المالية التي لا تمتلك مثل هذه البيانات ويمكن بالتالي لمديريها نقل الاموال إلي قطاعات غير منتجة بحجة البحث عن أرباح دون ان ينتابهم أي تأنيب ضمير. ويكمن السبب الرابع للازمة وفقا لتقرير مجلة التايم للازمة في سياسة الحكومة الامريكية حيال امتلاك البيوت.. فقط شجعت مواطنيها علي امتلاك المنازل وقدمت تسهيلات ضريبية.. لكن الخطأ الاكبر تمثل في تجاهلها لتأثير ذلك علي العرض والطلب واغفالها سياسة الاقراض غير المنطقية التي سادت الاسواق، كما حمل التقرير الناس والمواطنين انفسهم مسئولية الازمة إذ انغمسوا في طفرة المال بالسابقة واخذوا يستدينون الاموال مع معرفتهم بعدم قدرتهم علي سدادها.. كما أن ترك مصرف ليمان براذرز ينهار كان السبب في ظهور الأزمة المالية بشكلها الحالي حيث جري تجاهل وضع البنك وترك ينهار بطريقة مدمرة ارعبت الأسواق وفتح الباب لخروج جماعي من البورصات وأخيرا يحمل التقرير المسئولية عن الأزمة المالية للرئيس السابق جورج بوش وإنفاقه الكبير علي الحروب التي خاضها ولسياسته الضريبية التي قلبت الوفرة الكبيرة في الموازنة الأمريكية إلي عجز كبير لكل هذه الأسباب جاءت نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية بفوز ساحق لأوباما الذي عاد لاستلهام نظرية كينز مثلما فعل روزفلت حيث يقول المفكر الاقتصادي الكبير الدكتور حازم الببلاوي إن كينز قدم أهم أخطر تبرير لتدخل الدولة في الحياة الاقتصادية.. ومن هذه الزاوية فإن كينز يمكن أن ينظر إليه باعتباره معارضا للنظام الرأسمالي ونظريات عدم التدخل ولكنه من ناحية أخري كان يمثل المدافع الحقيقي عن هذا النظام فقد أعطي الرأسمالية دفعة جديدة مكنتها من تجاوز أزماتها ومشاكلها.. وبعد فترة وجيزة من تولي أوباما الحكم اصبحنا نري خطط التحفيز بمليارات الدولارات لإنقاذ الاقتصاد الأمريكي المتعثر وانتشال البنوك والشركات الأمريكية من خطر الإفلاس ويبدو أن هذه المحاولات الحثيثة لإنقاذ الاقتصاد العالمي قد تؤتي ثمارها ولا نواجه شبح الكساد الكبير. مما يدلل علي صحة كلامنا تصريح رئيس البنك المركزي الأمريكي "برنانكي" بأن الركود قد يستمر إلي عام 2010 ما لم تتبع الحكومة السياسات المناسبة. بينما أكد جان كلود تريشيه رئيس المصرف المركزي الأوروبي أن اقتصاد أوروبا سيعود ليلتقط أنفاسه ويشهد انتعاشا عام 2010.. إذن فإن شبح الكساد يبتعد كثيرا، والاقتصاد العالمي سوف يتعافي بمرور الوقت وهذا ما يتمناه الجميع. وفي النهاية نقول: لا يضيع من يمشي في شارع مستقيم. kazemfadel@hotmail