في الأسبوع قبل الماضي استعرضنا جزءاً من كتاب السيدة مادلين أولبرايت وزيرة خارجية بيل كلينتون ضمنتها نصائح قدمتها للرئيس الأمريكي القادم والذي لا يعرف أحد من سيكون..! تنتقل أولبرايت إلي العراق وجواره فهي تري أن إدارة بوش أخطأت حين تخلت عن سياسة "الاحتواء" ولجأت إلي "القوة" والاستخفاف وازدراء القوي الأخري وعدم الأخذ بنصائح تركيا والعرب التي اقترحت عدم تخريب التوازنات الإقليمية فأقدمت علي اجتياح العراق ما "أحال الهيكل الأمني غير المثالي إلي حطام". حتي حين حاول بوش انقاذ الوضع وابطال الضرر لجأ إلي سياسة "الهبوط بالمظلة علي النزاع العربي الإسرائيلي". تري أولبرايت أنه "لا خيارات جيدة في العراق" فكل الطرقات محفوفة بالمخاطر و"السبب أننا لا نملك النفوذ لتحديد النتيجة" فهناك خطر نمو نفوذ "القاعدة" في المناطق السنية، وخطر نمو نفوذ إيران في المناطق الشيعية، وخطر أن يتصدع العراق وتزداد المشكلات ما "يهدد إسرائيل" لذلك تقترح التعاون مع الجيران (دول الجوار) بقصد "التوصل إلي توازن هش" والتوازن الهش يعني برأي أولبرايت "السماح بانقسامه" وتحويل العراق إلي فيدرالية تتضمن ثلاث دويلات في الجنوب والشمال والغرب وترك الوسط (بغداد) عاصمة اتحادية. وتنصح أولبرايت الرئيس المنتخب بعدم اعتماد خيار القوة مع إيران واللجوء دائما إلي سياسة "الدبلوماسية الإقليمية" وتكشف في هذا السياق معلومات حصلت في عهد كلينتون حين تقدمت أمريكا بمشروع حوار (برنامج تفاهم) مع إيران رفضته طهران، ثم عادت القيادة الإيرانية وطرحت مشروع حل مع أمريكا في العام 2003 رفضته إدارة بوش. وبرأيها أن معاودة الاتصال التي بدأت بين الطرفين في العام 2007 جيدة حتي لو جاءت متأخرة. الفرصة إذا لم تغب عن الشاشة كما تري أولبرايت، هناك امكانات لعقد تسوية هشة تدعم الاستقرار "في عراق فيدرالي" وتعزف عن "العمل العسكري" في اعتبار أن إيران ليست قوية كفاية وغير قادرة علي فرض شروطها كدولة فارسية في منطقة عربية وتركية وتوجد فيها دولة مثل "إسرائيل". فلسطين والسلام في الحلقة الرابعة تنتقل أولبرايت من العراق والخليج إلي فلسطين و"الشرق الأوسط" وتستطرد في التحدث عن تعقيدات المشكلة وعدم قدرة إدارة كلينتون في التوصل إلي حل نهائي للنزاع بسبب خوف "إسرائيل" من السلام، لأنها تعتبر أن السلام يهدد أمنها ووجودها. وهذه المعضلة التي تبالغ في إثارتها حكومات تل أبيب تساهم دائما في تعطيل أي محاولة للتسوية. مع ذلك لا تتردد أولبرايت في اتهام ياسر عرفات بأنه المسئول عن فشل المفاوضات كذلك تحمل الرئيس حافظ الأسد مسئولية عدم التوصل إلي توقيع معاهدة سلام بسبب الاختلاف علي "نصف ميل بحري". تنطلق أولبرايت في تعاملها مع المسألة الفلسطينية من قاعدة حرص الولاياتالمتحدة علي أمن "إسرائيل" وضمان تفوقها علي ا لجيران. وبسبب هذه النقطة الذاتية (الداخلية) تشكلت معضلة في التفاهم مع الطرف العربي الذي يتهم واشنطن بالانحياز الدائم لسياسة تل أبيب. المشكلة إذا ستبقي من دون حل نهائي، والتوصل إلي سلام شامل يبدو الآن من الأمور الصعبة لذلك تقترح اعتماد تسوية تضمن الاستقرار وتمنع المنطقة من دخول دوامة العنف. التسوية يمكن عقدها حتي لو كان السلام في الشرق الأوسط "فترة من الهدوء بين حربين" وهذا يتطلب من الرئيس المنتخب ذاك "الخيال الجامح" والتدخل لتطمين مختلف الأطراف في اعتبار أن "المتفرجين لا يصنعون التاريخ" التدخل الدائم الذي تنصح به أولبرايت الرئيس المقبل يقوم علي فكرة أن التطور لا يعمل لمصلحة "إسرائيل" فهي الآن "أقوي من جيرانها بكثير، وتحذر التجربة من أن مثل هذه المعادلات يتطور" لذلك لابد أن يتعامل الرئيس المنتخب مع المسألة انطلاقا من خطوتين متلازمتين: الأولي اعتماد مبادرة السلام العربية المجمع عليها من دول الجامعة العربية وهي تفضي إلي سلام شامل مقابل انسحاب شامل ومعالجة قضايا القدس واللاجئين.الثانية استئناف المفاوضات بين "إسرائيل" وسورية وهي أسهل "لأنها لا تشمل القدس والعودة" وهي أيضا يمكن أن "تدفع إيران جانبا" وسيكون لذلك نتائج مفيدة في لبنان "حيث سيخسر حزب الله سبب وجوده" بين السلام الشامل (المبادرة العربية) أو التفاوض علي المسار السوري تفضل أولبرايت الخطوة الثانية، لأنها أسهل وأقل كلفة وتفضي إلي فوائد كثيرة وهذه الخطوات الممكنة لاترقي بالتسوية إلي السلام ولكنها تضع سعي الرئيس المنتخب في سياق منطقي وعلي أساس شروط لها علاقة بنتائج المحكمة الدولية (اغتيال رفيق الحريري) وقبول دمشق توقيع اتفاق بمعزل عن الفلسطينيين. الإسلام والإرهاب في الحلقة الخامسة (تنهي أولبرايت نصائحها للرئيس المقبل بعدم الانجرار نحو تقسيمات وهمية (مع أمريكا أو ضدها) أو تقسيم المسلمين إلي "معتدل" و"متطرف" لأن عدونا (الإرهاب) هو عدو المسلمين أيضا. فالمعركة برأيها "حرب أفكار" ولابد من الانتصار فيها وهذا يتطلب ابتكار "حرب العلاقات العامة" ووضع "إطار عمل للاستقرار في الشرق الأوسط الكبير" والاصرار علي التسوية. والأفكار النيرة حتي تنجح وتنمو وتستقر بحاجة إلي بيئة مستعدة لتقبلها وهذا يتطلب العمل علي بناء واقع غير مضطرب ولا يتحكم به "التعصب العرقي" أو "الحماسة الدينية". هذه هي خلاصة نصائح أولبرايت للرئيس الأمريكي المقبل سواء جاء من "الجمهوري" أو "الديمقراطي". فالإرشادات (المذكرة) أمريكية وليست حزبية وهي تنطلق من فكرة أن الرئيس هو صاحب القرار النهائي والختامي في الولاياتالمتحدة من دون أن تأخذ في الاعتبار مراكز القوي (لوبيات شركات الطاقة والتصنيع الحربي وأسواق المال) ودورها في التحكم بمصادر الثروة والقوة وترسيم معايير خاصة لمصالح الدولة العليا. النصائح في النهاية جيدة وهي تشكل خطوات متقدمة عن تلك السياسة التي اعتمدها بوش في عهده. ولكن الوقائع الميدانية التي تخوفت منها أولبرايت لاتزال هي الأقوي علي الأرض. فالكلام عن تقسيم العراق واعتباره بمثابة اقرار بالأمر الواقع يحتمل الكثير من المخاطر، لأنه قد يؤدي إلي انجرار المحيط الجغرافي (دول الجوار) إلي مواجهات إقليمية لاقتسام النفوذ أو ضمان وحدة بلاد الرافدين. والكلام عن "المسار السوري" وضعه في إطار مواز للمبادرة العربية يكشف عن سياسة خبيثة تريد التلاعب بالتوازنات الإقليمية بهدف خلخلة الحقوق الفلسطينية العادلة وتوريط قوي الممانعة في مواجهات داخلية تعطل امكانات السلام ولا تحقق الحد الأدني من التسوية.