كلما قارب شهر مارس علي الانتهاء، اجد صورة سعاد حسني تجدد في رأسي، وهي الانسانة التي لا تموت مني مشاعر تقديري العميق لها. فقد حدث في مارس قديم ان رأيتها لأول مرة وكانت خطواتها علي الأرض كطائر يبحث عن عش، وكان من جاء بها إلي فندق سميراميس هو عبد الحليم، حيث اشتعل الحب بينهما، وفي نفس الوقت كان الشاعر الكبير كامل بك الشناوي غارقا في الحب مع نجاة الصغيرة. وكان ليل القاهرة الربيعي يزدهر بصفاء غريب وعجيب. وفي مارس ايضا كانت سعاد حسني تحتفل معنا بأيام الربيع حول الفنان حسن فؤاد، وهو من كان يعتبر عيد الام هو عيد خاصا به، ليتذكز الوجه الملائكي الذي فقده في نهار قديم، وجه والدته. وكنا نحن تلاميذ حسن فؤاد نحبه بصفاء غير مسبوق، فهو الفنان الذي كانت مهمته الأولي هي اكتشاف مواهبنا نحن الاجيال الشابة. وترتبط ايام آواخر مارس بأغنية "بمبي.. بمبي" وأغنية "الدنيا ربيع والجو بديع.. قفلي علي كل المواضيع.. قفل.. قفل.. قفل"، وهما الأغنيتان اللتان خرجتا من مشاعر هذا الموهوب بلا حدود صلاح شاهين. آواخر مارس - إذن - هي حقيقة ربيعية من اختراع المصريين وحدهم، لان الربيع عندنا ليس مثل اوروبا، حيث يكون الربيع في كل من اوروبا والولايات المتحدة ممتلئا بالزهور وذوبان الثلوج، وتزدهر الحياة حقا وصدقا، اما عندنا، فنحن من نخترع الربيع وسط عواصف من الاتربة، وجو الخماسين الصاعق بتذبذت درجات الحرارة فيه. وكأن الربيع عندنا - الذي نخترعه - هو نموذج لأعماق سعاد حسني، تلك التي نبتت في اسرة ذات مشاكل هائلة، ولكنها كانت وحدها قادرة علي مواجهة مشكلات تلك الاسرة، فهي التي تصرف علي الاخوة، وهي من ترعي الام، وهي من تكفل ابناء الاخ، وهي فوق كل ذلك من تتوهج امام العيون والكاميرات كأنها الحلم المفقود. نعم كان وجه سعاد حسني يفرح بالكاميرا وتفرح به الكاميرا، والجاذبية بين العدسة ووجه سعاد سببه عبد الحيلم حافظ، فهو من اصر علي منح سعاد حسني الفرصة كاملة في فيلم "البنات والصيف"، وهو افيلم الذي صرخ فيه مدير الانتاج من ارتباك سعاد امام الكاميرا، وتدخل عبد الحليم وقال "لايهم كم سنتحمل في تكلفة التصوير، ولكن من المهم ان تنجح سعاد". ولم يكن رأي عبد الحليم من اعجابه فقط بسعاد حسني، ولكن كان من اسبابه هو تجريد محرم فؤاد من الممثلة التي كان من الممكن ان يواصل معها نجاحا اذا ما ظهرا في سلسلة من الافلام بعد نجاح فيلم حسن ونعيمة. اتذكر سعاد حسني بكل امتنان لنقاء قلبها الذي يندر ان يوجد داخل امرأة عاشت مثل حياتها الصعب، فهي من اعطت، ولم تنتظر من احد اي عائد.