"أميرة".. كان يطلق عليها والدها "أميرة حبي آني" باللهجة الفلاحي التي تصبغ لسان تلك القرية التابعة لمركز القنايات بمحافظة الشرقية. لكن والدها مصدر حمايتها الاول والاخير والذي كان يدللها بوصفها اصغر إخوتها السبعة سرعان ما توفي بعد ان اصيب بفشل كلوي وظل يعاني من الغسيل الذي لاتقوي عليه صحته الضعيفة وجيبه الخالي، حتي انها تذكر انه في شبه إنتحار قرر ان يتوقف عن الذهاب إلي مركز الغسيل ولزم البيت قائلا قولته الشهيرة "ان الحمار تعب من الشيله!". ولم تفهم أميرة في ربيعها الثامن معني قول والدها ولكنها بكت اياماً وليالي علي غياب والدها. وظلت تنتحبه طويلا لانه منذ إختفائه من حياتها بدأت تشعر بقسوة الحياة، بل واستحالة استمرارها. أميرة بعثت لي رسالة مكتوبة من خلال أحد أبناء القرية من أقارب زوجي، وتأثرت بكلماتها البريئة والتلقائية لدرجة البكاء.. تحدثت عن الفراخ التي كانت والدتها تطبخها يوم الخميس من كل أسبوع.. وانقطعت هذه العادة بعد أن مات والدها: يوم الخميس كنا نستناه بفارغ الصبر، ونتمني أن يختفي كل أيام الأسبوع، ولا يبقي إلا يوم الخميس لأنه الوحيد الذي تطبخ فيه أمي "طبيخ" مع فرخة، وتضع مرقة الفراخ علي حلة الخضار التي مللنا من أكلها "أورديحي" طوال أيام الأسبوع. وتضيف أميرة في ورقة الكراس المسطرة التي كتبت عليها الرسالة: "حتي يوم الخميس معدش بيجي يا أبلة، من يوم ما أبويا مات، وكيلو اللحمة اللي كان أخويا دسوقي بيحوش فلوسه من يوميته ويشتريه مرة في الشهر معدش يقدر يحوشه بعدما أصبح مسئولا عن مصاريفنا كلها". لكن المشكلة التي بعثت بها أميرة رسالتها لشرحها ليست الفرخة التي لم تعد تزر بيتهم، ولا اللحمة التي ودعتها مثلما ودعت والدها، وإنما ال32 جنيه التي لم تستطع أسرتها دفعها للمدرسة حتي تنتظم مع زميلاتها في الدراسة، وبرغم تصريحات كل وزراء التربية والتعليم السابقين وربما الحاليين واللاحقين لم تتسلم أميرة الكتب لأنها كل يوم تقول للأبلة: بكرة! وتوضح أميرة أنها ليست الوحيدة فهناك أربع من زميلاتها "يتزنبوا كل يوم" بسبب عدم دفعهن لمصاريف المدرسة، وهذه المشكلة التي قد تبدو للبعض صغيرة قادت إلي مشكلة أكبر. أميرة التي تبدو سعيدة أن هناك "بيه" الله يستره أحضر كوتشيهات لبنات كتير، وأبله سامية جارتهم وضعت اسمها في الكشف، حتي تحصل علي "كوتشي" وأن والدتها شكرت "الأبلة" وقالت لها: موش حنسي جميلك، وبعثت أميرة يوم الثلاثاء تنظف الخضار الذي اشترته "أبله سامية" من السوق الاسبوعي كمحاولة لشكرها ورد الجميل. ولم تذكر أميرة أنها كانت متضايقة من تنظيف الخضار فهي تحب أبلتها التي تساعدها في مذاكرة دروسها وتقول لها دائما: "يا ابنة الراجل الطيب" فتسعد اميرة بهذا الذكر العطر لوالدها. ولكن يبدو ان "الابلة" عجزت عن تدبير مصروفات الاربع بنات في الفصل وربما اكثر من هذا العدد بكثير في المدرسة. اما المشكلة الاخطر كما قلت والتي داهمت اميرة واشعرتها بالهلع والعجز فهي العرض الذي جاء به شقيقها "دسوقي" لتشغيلها عند عائلة في "مصر" مقابل 250 جنيها شهريا وهي ثروة كبيرة جدا بالنسبة لهم! وقال لها : كفاية تعليم .. واحنا موش لاقيين ناكل! العائلة التي ستعمل عندها خادمة ستتولي اكلها ولبسها وستعطي "عم احمد" السمسار اجرة سمسرته ودسوقي مصمم ويضغط علي والدته وليس هناك مفر للافلات فأميرة هي "الحِرِْكة" بين اخواتها فاختها الكبيرة فتحية مخطوبة وخطيبها لن يقبل فكرة اشتغالها خادمة اما نوارة فلديها شلل اطفال ولا يمكن ان يقبلها احد كخادمة. ولم تبق الا "اميرة" التي تضع عليها الاسرة مهمة تخليصها من هذا الفقر المدقع وتلك الحاجة التي تصل الي الفاقة. واصبح حلم تزويج فتحية ايضا من مسئوليات "اميرة" الصغيرة .. واذا قالت لا .. فان تلك الاحلام ستذهب مع الريح! أما إذا قالت نعم فإن حلمها بأن تتعلم وتحصل علي شهادة وتعمل مدرسة.. أو ممرضة.. "أو حتي دكتورة" لسوف يتبخر!! تمنيت لو ان اميرة بعثت تطلب مساعدة مالية لكان الامر اهون عليّ لكن والحال انها تسألني النصيحة والرأي في ان تترك المدرسة وتعمل خادمة فلابد ان افكر مليا في كيفية تخليص اميرة من هذا العرض المحنة المرشح للتكرار. شاركوني الرأي وقبل ان نقول لاميرة "لا" فلنفكر كيف يمكنها ان تحل مشكلة عائلة برمتها!