إن كانت حياتك سفينة، فلا بد أن تعلم بأنه كان لها ربان أمين في المهد حرص علي أن يحتل موقع القيادة، فأمسك بدفتها، وحدد وجهتها، ورسم خطة لمسيرتها، وأبحر بها فشق أمواج الحياة وواجه بها تقلبات الدهر حتي وصل بك إلي بر الأمان، إنه أبوك، غاية كل أب أن يوفر لولده ما لم يتوافر له ، وهو ما رصدته «روزاليوسف» في الأوساط الشعبية. بدأنا جولتنا بالحديث مع سيدة تفترش الرصيف وأمامها موقد به بعض الحطب المشتعل وعدد من أعواد الذرة، السيدة تدعي أم حمادة 62 سنة تقول إنها وأسرتها من أهل محافظة بني سويف والدها «الله يرحمه ويسامحه» كان أرزقي يسعي علي رزقه «من طلعة النهار» يعمل مع عمال التراحيل والبناء ويرجع إليهم في المساء بوجبة العشاء وهي وجبتنا الأولي والأخيرة فهي لا تذكر أمها وهي تقف في دارهم المكونة من حجرة واحدة لتعد لهم وجبة العشاء ومن ثم لم تتح لهم فرصة للجلوس معه إلا علي الطعام. وتضيف أم حمادة أن والدها لم ينل أي قدر من التعليم ولكنه مما لا شك فيه كان رجلاً متديناً يحفظ بعض الأحاديث والسور من القرآن الكريم ولكن تكلفة ذهاب 5 أبناء إلي الكتاب لتحفيظهم القرآن كانت بالنسبة له كارثة لأن الشيخ كان يطلب مقابل كل واحد منهم 50 قرشاً في الشهر فقد كان يوفر لهم المأكل والملبس، وعلي حد قولها «لما شدت عودها وبقيت عروسة جوزها لأول واحد دق الباب». تذكر أم حمادة أنها لم تعرف قدر والدها ومكانته في قلبها إلا في أواخر أيامه عندما مرض وظل سبع سنوات يعاني من مرض غير معروف وقامت بخدمته وأمها الفاقدة للبصر لا تقوي علي خدمة نفسها وخرجت للعمل لأول مرة بعد أن كانت ربة بيت حتي يتسني لها الإنفاق عليهم وعلي أطفالها الأيتام عرفت وقتئذ أنه كان يكد ويتعب لتوفير قوتهم الضروري وبعد سنوات من الألم توفاه الله ورأسه بين يديها. أما محمد صالح 24 سنة بائع فول، فيروي لنا قصته مع والده وقدرة الفول فيقول إن والده يعمل عاملاً في مدرسة بمحافظة الوادي الجديد، ولأنه رزق بولدين فقط هو وشقيقه الصغير، فقد حرص علي تربيتهما وتعليمهما، وأمله انحصر في أن يكون لولديه في الحياة حظ أفضل من حظه، إلا أن لكليهما طموحا يختلف عما خطط له الأب، فشقيقه الأصغر قرر أن يحصل علي دبلوم الزراعة «مؤهل متوسط» حتي يتسني له العمل كمزارع وهي المهنة المتاحة لأمثاله من الشباب في المحافظة، مما يتيح له فرصة للزواج سريعا كذلك محمد فضل الحصول علي دبلوم فني صناعي حتي يبدأ حياته العملية بشكل أسرع يتيح له الخروج من قريته بمحافظة الوادي الجديد. يقول محمد: إن والده لم ينتبه لهذا في البداية وعارض اختياراتهم تلك حتي فاجأه محمد بطلبه السفر إلي القاهرة لعمل مشروعه الخاص، وهو عربة لبيع الفول في إحدي المدن الجديدة، فثار والده عليه لكن محمد أصر علي موقفه وبدأ مشروعه وظل والده غاضبا عليه حتي أزمة زواج أخيه. وداخل أحد محلات الفاكهة جلس رجل يرتدي جلباباً ويلتف حوله أبناؤه يظنه الزوار في بادئ الأمر المعلم صاحب المحل، ولكن بالحديث معه عرفنا بنفسه فقال إنه يدعي سعيد محمد مرسي حداد 55 سنة نائب مدير أحد البنوك الكبري من قرية بمركز أبوالنمرس بمحافظة أكتوبر حاليا والده كان فلاحا بسيطاً وكان له 5 أشقاء وولدان و3 بنات، كان من ضمن الفلاحين الذين حصلوا علي خمسة أفدنة بعد قانون الإصلاح الزراعي بعد الثورة، وعلي الرغم من أنه لم يؤتَ حظاً من التعليم، فإنه حرص علي أن يلحق أبناءه ال6 بالكتاب ومن بعده المدارس الأميرية، واتخذ كل منهم طريقة، فالبنات زوجهن برجال صالحين والأولاد منهم من اختار مجال العمل الحر، أما هو فقد التحق بكلية التجارة جامعة القاهرة ثم عمل بأحد البنوك حتي وصل لمركزه الحالي. أما محمد عبدالفتاح نديم 55 سنة ميكانيكي سيارات فيقول: والدي رحمه الله كان باشاويش بمطافي القاهرة عنده من الأبناء تسعة فضلا عن الزوجة والأم، الجميع يحيا معه تحت سقف بيت واحد بمنطقة الإمام الشافعي براتب شهري 18 جنيهاً، وكان البيت يسير مع عقارب الساعة الأكل بميعاد والنوم بميعاد والاستيقاظ بميعاد، كان أشبه بسي السيد في حزمه يأمر فيطاع.. أمي تقف إلي جواره أثناء الطعام وأثناء اللبس تتحرك بإشارات منه بينما نحن كان حازما معنا شديدا خاصة مع الأولاد، فأحيانا كثيرة كان يقف مع الأسطي ضدي ويوبخني أمامه فيقول له «كسر وأنا أجبر، المهم يتعلم»، وعلي الرغم من ذلك كان يخشي علي من الاندماج في حياة «الصنايعية».. فكان لا يغمض له جفن ما لم يطمئن لوجودي بالمنزل وقد أصيب والدي بالمرض في سن 45 سنة وفارق بعدها الحياة، ومنذ ذلك الوقت حملت عبء العائلة علي كاهلي من تعليم أخواتي البنات الست وزواجهن ومصاريف البيت وكان عمري آنذاك 12 عاما. نجوي محمد 15 سنة بائعة الزهور تقول إن والدها توفاه الله في حادث سيارة منذ عامين، كان يعمل سائساً في أحد مواقف السيارات وترك لها عبء أسرة تتكون من 5 بنات في التعليم الأساسي وهي كبراهن، فضلا عن أمها ولأن والدها لم يحقق حلمه في إنجاب ولد، ما تسبب في طلاق أمها مرتين، فكان عليها أن تقوم بدوره في الإنفاق علي البيت وقد سمح لها زملاء أبيها بأن تعمل تحت أعينهم ورعايتهم لتبيع الزهور بالموقف وتحقق حلم أمها في تعليم أخواتها البنات، حيث إنها لم تكن لترضي أبدا بخروجها للعمل وإلا من سيتولي رعاية البنات وتربيتهم.. فعلي حد قول أمها «هي رجل البيت».