بطل هذه القصة هو أبي، وأخي، وصديقي، الأستاذ محمد عبدالقدوس.. وقد أردت بها أن أقدمها لخصومي الذين لم يجدوا ما يعيرونني به، فعيروني بأني ابن ممثل وممثلة.. لعلهم يجدون فيها شيئا جديدا يعيرونني به!! منزل الشيخ أحمد رضوان، باشكاتب المحكمة الشرعية، بشارع رضوان شكري، بالعباسية. إن رب البيت شيخ طيب جليل، نشأ فلاحا فقيرا في بلدة شبرا اليمن مركز زفتي، وأرسله أبوه إلي الأزهر ليتلقي علوم الدنيا والدين، ثم التحق بالمحاكم الشرعية، وارتقي فيها حتي أصبح باشكاتبا.. وهو رغم تدينه وورعه وشدة تمسكه بالتقاليد، يميل إلي الفن، وإلي مجالس الفنانين. وكان البيت يتكون من ثلاثة أدوار.. الدور الأعلي، خصصه الشيخ الطيب لنفسه، وكانت به حجرة صغيرة ضيقة، يدخلها ضوء هزيل ويعبقها عطر مسك، وقد ازدحمت بالكتب الدينية، وكان أهل البيت يطلقون عليها اسم المعبد خانة، وكان الشيخ إذا ما دخل هذه الحجرة وأغلق عليه بابها، سكت كل من بالمنزل، وكتموا أنفاسهم، حتي الفراخ والأوز والخراف التي تمرح فوق سطح الدار! فقد كان الشيخ يخلو إلي ربه في هذه الحجرة، فيصلي، ويقرأ القرآن، ويتلو الأوراد، ثم ينكب علي دراسة كتب الفقه والدين. أما الطابق الأوسط، فقد خصصه الشيخ لزوجته التركية الجليلة، وأولاده. وأما الطابق الأسفل - أو الأول - فكان بمثابة بيت الاستقبال، يستقبل فيه الشيخ ضيوفه، ولم يكن ضيوفه كلهم من رجال الأزهر، والمحاكم الشرعية، بل قد تعود أهل الحي بين حين وآخر أن يستقبلوا في حيهم كبار رجال الفن في ذلك العصر وعلي رأسهم عبده الحامولي ومحمد عثمان.. وكانوا جميعا من أصدقاء الشيخ، يقدرون فيه طيبته ورقته، ودقة ذوقه الفني في الحكم علي مقطوعاتهم الموسيقية. وفي إحدي هذه الليالي التي كان يحييها محمد عثمان في بيت الشيخ أحمد، صعد الشيخ إلي الدور الأوسط، فوجد أهل البيت يخرجون النعناع فعاد وفي يده عود من النعناع الأخضر لكل ضيف من ضيوفه وألهمت هذه الرقة عبقرية محمد عثمان فأمسك عوده وغني علي البديهة: يا بتاع النعناع يا منعنع.. يا بتاع النعناع يا شيخ أحمد!. وقد ذاعت هذه الأغنية أيامها ذيوعا عم مصر كلها، ولايزال البعض يرددها حتي اليوم. ؟؟ وفي هذا الجو العجيب ولد ابن الشيخ وقد نشأ وهو يسمع أباه يتلو القرآن ويسمع عبده الحامولي يغني القصائد والتواشيح فآمن بأن الدين فن، والفن دين.. وأن الدين والفن كليهما هبة من الله لا يتمتع بها إلا المؤمنون. وكانت له دالة علي أبيه، فسمح له أبوه أن يجلس معه في المعبد خانة في الأوقات التي يخلو فيها إلي ربه.. فكان يجلس منزويا صامتاً، في ركن الحجرة الهادئة الضوء، المعبقة بالمسك، وينصت إلي آيات الله، وإلي نقرات حبات مسبحة أبيه الشيخ، فلا يفهم مما يسمع ويري شيئا، ولكنه كان يحس جلال الموقف بقلبه وأعصابه، وكان إحساسه أحيانا يغلب صغر سنه فتنحدر دموعه صامتة فوق وجنتيه. ويلمح الشيخ هذه الدموع فلا يرتاع، بل يبتسم في اطمئنان، فقد كان يريد ابنه أن يشب مرهف الحس، شديد الإيمان.. وقد كبر الابن وأصبح شابا، ثم رجلا، ثم شيخا، وحسه يشتد إرهافاً، حتي أصبح يشفق علي الجماد، ويحنو علي الحيوان، وأصبح في دينه متصوفا إلي حد التقشف، يري قدرة الله مجسمة في كل كبيرة وصغيرة تخطر أمامه. وسمحت له هذه الدالة، التي كانت له علي أبيه أن يحضر مجالس الفن والطرب التي يعقدها الشيخ، فكانت الأنغام ترن في أذنه، وترسب في قلبه، وتسري في دمه.. فلما كبر أصبح يلحن أدواراً موسيقية ناجحة دون أن يكون قد درس الموسيقي أو تعلم أصولها.. وقد مضي الابن صدر شبابه وهو تائه، يحس أن هناك شيئاً ينقصه ولا يدري ما هو، ويحس أن هناك نوراً في حياته ولكنه لا يستطيع أن يهتدي إليه.. وكان أحياناً يحس أنه يريد أن يكتب، فيكتب أشعاراً وقصصاً، وأحياناً يحس أنه يريد أن يغني، فيغني ما كان يسمعه من عبده الحامولي، وأحياناً يحس أنه يريد أن يخطب، وأن يصرخ، فيخطب ويصرخ.. ولكن ما كانت الكتابة، ولا الغناء، ولا الخطب، ولا الصراخ لتكمل ما كان يشعر به من نقص، فكان يلجأ إلي المعبد خانة في غيبة أبيه، ويتلو القرآن فيستريح. وعندما كان في الثانية عشرة، صحبه خادم البيت ذات ليلة إلي مهرجان المولد النبوي، ودخل به إلي سيرك الحاج سليمان- وكان أشهر سيرك في عهده- وهناك شاهد البلياتشو لأول مرة، فضحك وضحك حتي اغرورقت عيناه بالدموع. ومن يومها تطورت حياة الابن، فلم يعد يقبع بجانب أبيه يسمع عنه القرآن، ويسمع من ضيوفه الأغاني، بل كان كلما أرخي الليل ستاره، يفر من البيت، ويعدو عدوا إلي ساحة المولد النبوي، ويدخل السيرك ليشاهد البلياتشو. وتعب معه أهل البيت، فكانوا يغلقون عليه الأبواب، ويحيطونه بحرس من الخدم، ولكنه كان دائماً يجد طريقاً للهرب والفرار إلي حيث يشاهد البلياتشو وكانوا يعرفون أين يذهب فيرسلون وراءه عم محمد الخادم الأمين، ليعود به إلي حيث تستقبله أمه بالدموع، ويستقبله أبوه الشيخ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، ومن سيرك الحاج سليمان! ولم يكن الطفل ينظر إلي البلياتشو كما ينظر إليه الناس، بل كان ينظر إليه كنعمة من نعم الله، ورسول من لدنه تعالي حمل رسالة إسعاد البشر.. وقد خلق الله الأرض لنعيش عليها، وخلق المطر ليحيي موات الأرض وينبتها زرعا نحيا بفضله، وأرسل الأنبياء ليهدونا إلي الصراط المستقيم، وكذلك خلق- عز وجل- البلياتشو ليهب المؤمنين ساعة من المرح تخفف عنهم شقاء الدنيا ورهبة الآخرة.. وليس أحب إلي الله من أن يضحك عباده، ويسعدوا في حدود الحلال. وفجأة بدأ يري النور الذي عاش يبحث عنه، وبدأ يهتدي إلي الشيء الذي كان ينقصه.. وكان ذلك عندما صمم علي أن يسعد كل من حوله، وأن يجلب الضحك والابتسام إلي كل من يقترب منه، وأن يملأ بالمرح والبشر كل قلب. وكان هو أول من ابتكر فن المنولوج الموسيقي في مصر، وكان أول منولوج اشتهر عنه منولوج العروسة ومطلعه: في مرة وأنا ماشي نواحي العباسية قابلتني بنت حلوة، أطول مني بلكمية وكان قد انتهي من دراسته الابتدائية، وأراد له أبوه أن يكمل دراسته الثانوية، ولكنه رفض، فقد كان مؤمناً برسالته في إسعاد البشر، وكان يعتقد أن رسالته هذه تتطلب منه أن يتنقل من بلد إلي آخر حتي تعم العالمين، وأراد أن يبحث عن مدرسة تؤهله لأن يكسب عيشه أينما حط رحاله، فلم يجد إلا مدرسة الفنون والصنايع. وقد كان دائماً من أوائل طلبة الفنون والصنايع.. ولاتزال له حتي اليوم لوحة باسمه عليها رسم مشروع من تصميمه، معلقة في بهو المدرسة، يتصفحها الطلبة جيلاً بعد جيل.. ولم يمتنع خلال دراسته عن تأدية رسالته، فكان يؤلف منولوجات يذيعها في الحفلات المدرسية والحفلات الخاصة، ويتهافت علي سماعها أهالي الحي والأحياء المجاورة، حتي أصبح اسمه علما بينهم. وعندما تخرج في مدرسته عين ناظراً لمدرسة الصنائع بنجع حمادي، وكان مركزاً ممتازاً بالنسبة لسنه، لو أنه تشبث به لكان اليوم من كبار موظفي الحكومة، ولكن إحساسه الفني غلبه، فكان يحن دائماً إلي القاهرة ليكمل فيها رسالته الفنية، فاستقال من وظيفته بعد شهور من تعيينه، ووضع منولوجا يصف به حياته في نجع حمادي جاء فيه: رحت باتفرج علي البيت الجديد التقيته حاصل، وبابه من جريد والعقارب صف واقف من بعيد لابسه رسمي لأجل ما تأدي التحية قلت: بونجور عقربه، قالت: حبابك قلت: ستي، قالت: احنا من جيرانك قلت: فين؟ قالت: في بيت دولة جنابك اكترينا حوش هناك تحت الحنية وقد سمع المغفور له الملك فؤاد هذا المنولوج في إحدي حفلات النادي الأهلي، وكان لايزال أميراً، فلما تولي العرش، أقيمت حفلة ساهرة في قصر عابدين، وطلب جلالته سماعه مرة ثانية. عاد الشاب إلي القاهرة، ولم يحاول أن يبحث عن وظيفة أو عمل، بل عاش في بيت أبيه، وعلي نفقته، وكان عضواً في النادي الأهلي، فألف فيه فرقة تمثيلية، كان من بين أعضائها الأستاذ فكري أباظة بك، وبدأ يلقي منولوجاته الفكاهية هناك، ثم تقابل مع المرحوم محمد تيمور بك، فتشبع بفكرة النهوض بالمسرح المصري، وأصبح ممثلاً. وثار عليه أبوه الشيخ، وحاول أن يثنيه عن الاشتراك في الفرق التمثيلية العامة، وعرض عليه أن يبعث به إلي أوروبا ليكمل دراسة الهندسة، ثم عرض عليه أن يهبه جميع أملاكه ليديرها، ولكن الابن رفض، وصمم علي أن يلتحق كممثل بفرقة المرحوم عبدالرحمن رشدي. وكان الشيخ يعشق الفن، ولكنه لم يكن يعتبر التمثيل أو التشخيص فناً، بل كان يعتبره حرفة دنيئة، وكان يعتبر اشتغال ابنه به سبة في جبين العائلة وخروجاً علي التقاليد، وكان أن طرد ابنه من البيت، وحرمه من الإعانة التي كان يصرفها له. ولم تمض أسابيع حتي تحايل الابن بمساعدة بعض أفراد العائلة، وأتي بأبيه الشيخ ليشاهد إحدي المسرحيات التي كانت تقدمها فرقة عبدالرحمن رشدي.. وفوجئ الشيخ عندما رأي ابنه علي خشبة المسرح، وغضب، ولكنه- وهو الشيخ الجليل- كتم غضبه عمن حوله، فلم يلحظوه إلا في سرعة دقات مسبحته، ومع تتابع حوادث المسرحية بدأت دقات المسبحة تهدأ، وبدأت الابتسامة تشرق علي وجهه، وعندما انتهي الفصل الأول، صفق الشيخ طويلاً.. وكان يصفق لابنه! واستدعاه إلي مقصورته بعد انتهاء التمثيل، وسمح له بتقبيل يده، وعاد به إلي البيت. وهنا أجد نفسي مضطراً إلي اختصار صفحات كثيرة من القصة، صفحات كتب كل سطر منها، وكل كلمة، وكل حرف، للفن وحده.. صفحات رفعت معهد الموسيقي الشرقي إلي القمة، وأنقذت جميعة أنصار التمثيل من الاندثار، وأنعشت النادي الأهلي، وسجلت إعجاب مدارس إيطاليا الفنية بمصري كان يمثل أمامها فمنحته أرقي الشهادات، دون أن يفهم أساتذتها ماذا يقول؟ ولكن الممثل اضطر يوماً أن يعود موظفاً في الحكومة، فإنه تزوج، وأنجب طفلاً، وأحس أنه مسئول عن طفله، وعن تربيته، وتنشئته، وخاف ألا يكفي ما تركه له أبوه الشيخ من ثروة، فالتجأ إلي الوظيفة ليضمن مرتباً ثابتاً، يعينه إذا ما أرادت الأقدار أن تقضي علي إرثه.. وقد قبل الوظيفة في أضيق حدودها، فاختار بنفسه منصباً لا يعوقه عن الاشتغال بفنه، وكان يرفض الترقيات، والدرجات، التي يستحقها، لا لشيء، إلا لأنها تزيد عليه أعباء وظيفته فتشغله عن التمثيل. وقد اضطره ابنه أن ينزل من سماء الفن ليعيش بين وقت وآخر في الدنيا، وفي هذه اللحظات التي كان ينزل فيها إلي الأرض ليهتم بشئون ابنه، وضع لأول مرة في حياته مسرحية مؤثرة عنيفة درام مثلتها السيدة عزيزة أمير علي مسرح حديقة الأزبكية، وكان اسم المسرحية إحسان بك! وكبر الابن ونال شهادة الحقوق، فجاءه أبوه وقال له: - إني أعرف أنك ستسلك طريقاً في الحياة غير الطريق الذي سلكته.. إنك تحب الاشتغال بالسياسة، وقد تصبح يوماً نائباً، أو وزيراً، أو رئيساً للوزراء، وأخشي أن يكون اشتغالي بالتمثيل عقبة في طريقك.. وأنت تعلم أني أحب أن أضحي من أجلك بكل مالي، ولم يعد لي الآن إلا فني، وسأضحي به من أجلك.. سأهجر التمثيل! - - وذهل الابن وهو يسمع هذا الكلام لأول مرة من أبيه.. ولم يكن قد خطر علي باله يوماً أن هواية أبيه للتمثيل قد تكون عقبة في طريقه، بل إنه طول حياته لم يفتخر بشيء قدر افتخاره بأن أباه ممثل تهتف له الجماهير، ويلمع اسمه بحروف من نور فوق رؤوس الناس، وكان، منذ أن كان طفلاً، إذا ما سأله أحد عن صناعة أبيه، لا يقول إن أباه مهندس في وزارة المواصلات، بل يقول بأعلي صوته: أبي ممثل، وكان في جميع أوراق مدرسته الرسمية- حتي عندما وصل إلي الحقوق-لا يكتب أن أباه موظف، أو مهندس، بل كان يكتب إنه ممثل. - - وكان معروفاً عن الابن أنه عصي الدمع، لا يبكي إلا نادراً، ولكنه عندما سمع ما يقوله له أبوه، بكي، وأجاب من بين دموعه: - إنني أعرف أبي ممثلاً، فإن هجر التمثيل فقد أتوه عنه! واحتضن الأب ابنه، وبادله دموعه، وقال: هذا ما كنت أنتظر أن أسمعه منك.. عشت لي.. وردد الابن دعاء أبيه: عشت لي.. وسار الابن والأب كل في طريقه.. الابن يشتغل بالسياسة والصحافة، والأب يمثل ويختلي بنفسه في المعبدخانة ليعبد ربه ويدعوه أن يحقق آمال ابنه.