تحظي الأم بمكانة بالغة الأهمية في عالم نجيب محفوظ الروائي والقصصي وهو ما يتوافق مع القيمة السامية للأم في الحياة المصرية وفي الحياة الإنسانية لجميع المجتمعات والشعوب وعلي الصعيد الشخصي لعبت أم الكاتب الكبير دورا إيجابيا في تشكيل شخصيته وتحديد مساره وفي حواراته مع الناقد الراحل رجاء النقاش المنشورة في كتاب نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته يري نجيب أن أمه التي لم تكن تجيد القراءة والكتابة كانت مخزنا للثقافة الشعبية ودائمة التردد علي المتحف المصري فضلا عن غرامها بسماع الأغاني خاصة للشيخ سيد درويش ويعترف نجيب أن علاقته مع والدته كانت أوثق من العلاقة مع أبيه من ناحية لأنه لازمها وأقام معها باستمرار ومن ناحية أخري لأن العمر قد امتد بها طويلا بعد وفاة الأب. يقدم أدب نجيب محفوظ رؤية عميقة شاملة لأنماط مختلفة من الأمهات: الطيبات الوديعات، المرحات المسكونات بالأسي، المسرفات في التدليل إلي درجة الإفساد، المهملات السلبيات اللامباليات، المنحرفات والعاهرات، الممزقات بين احتياجات الأنوثة ومشاعر الأمومة وصولاً إلي المسلحات بالإرادة الحديدية والقوة التي تعين علي تحمل المسئولية ومواجهة التحديات. من حق المرأة أن تجمع بين الأمومة والأنوثة، وقد تعددت محاولات هنية وبهيجة، في الثلاثية، لتحقيق قدر من التوافق، يتمثل في علاقات زوجية ومغامرات غير شرعية، لكن أم عباس في قصة حلم نصف الليل، مجموعة بيت سيئ السمعة، تنفرد بالاقتصار علي الزواج دون انحراف يصطدم بالثوابت الدينية والقيم الأخلاقية. مثل هذا الالتزام لا ينفي أنها أفرطت وأسرفت فيما تراه حقا شرعيًا، فانعكس سلوكها سلبا علي الابن الوحيد من الزواج الأول: عباس. أم عباس امرأة جميلة مزواجة، لا تتعلم من تجاربها القاسية مع الرجال، وعلي ابنها عباس، الطيب الساذج إلي درجة الوقوف علي حافة البلاهة والدروشة، يقع عبء التخلص من زوجيها الطامعين فيها الناهبين لأموالها، بعد أن عرفت معهما المذلة والهوان. عُرفت أم عباس في الحي بجمالها وثرائها، وعندما مات زوجها الأول، الذي أنجبت منه عباس، لم تكن قد جاوزت الأربعين. طمع فيها الكثيرون، لكن الأقدار قادتها إلي حسنين، مالك الكارو، الذي يصغرها بعشر سنوات. تعرضت معه للإهانة والضرب، قبل أن يُقتل وتنجو من شروره. تجاوزت أم عباس المحنة، وصمد جمالها ولم يبهت، وإذا بها تخوض تجربة جديدة لا تقل فشلا مع عبده القصاب، وجاءت نهايته بالقتل أيضًا، وبالطريقة نفسها التي قُتل بها حسنين! عباس هو القاتل، وأم عباس هي صانعة مناخ جريمتي القتل. جمالها نقمة، واندفاعها العاطفي مهلك، وعجزها عن استيعاب ما تمر به من تجارب، يقودها إلي مزيد من الهزائم والنكسات. أفسدت أم عباس حياة ابنها الوحيد، وعرضته للأذي والاضطهاد من زوجين يبرع كلاهما في الاحتيال والنصب والسرقة، والنتيجة النهائية تبرهن علي أن الزواج في ذاته لا يمثل عاصما للمرأة التي تتطلع إلي الاحتفاظ بالأنوثة والأمومة معا. الأم الشيطانية التماس الأعذار ممكن، وإن لم يكن مقنعا، بالنسبة لهنية وبهيجة وأم عباس، وليست منهن من تتعمد إيذاء الأبناء وإلحاق الضرر بهم، ويختلف الأمر في قصة نكث الأمومة، مجموعة همس الجنون. روحية زوجة خائنة، وأم مستهترة، وعشيقة متسلطة. لا تتورع عن العبث بشرف زوجها، والتضحية بسعادة ابنتها، في سبيل الاحتفاظ بشبابها وتمتعها بالحياة. الزوج الثري محمد بك طلبة من كبار تجار الشاي، وكان في الخامسة والأربعين عندما تزوج الشابة الصغيرة روحية في إحدي رحلاته التجارية، وهي فتاة سورية الأب أمريكية الأم. ولأن الفارق شاسع بين عمريهما، فقد وصل الزوج إلي الشيخوخة والإفلاس كرجل، بينما المرأة في مكتمل الإنوثة وذروة النضج. لا تقنع روحية بدور الأم لمدحت وحياة، وتتخذ من المحامي الشاب عاصم عشيقا لها، إن لم يكن بتشجيع زوجها ومباركته، فعلي الأقل بمعرفته وتغاضيه! تكمن مأساة روحية في ولعها المتطرف بالحفاظ علي شبابها وجمالها: فكانت لا تني عن العناية به والتفكر فيه حتي غدا ذلك وسواسا ومرضا ينغصان حياتها بالمخاوف والأوهام، وكانت كلما تقدم بها العمر يوما تزايدت مخاوفها، ذلك أنها كانت تحس في أعماقها ببلوغ قمة الشباب التي لا يعقبها إلا الانحدار، وكانت تعلم أن شبابها هو سعادتها لأنها بدونه لا تستطيع أن تجذب إليها الرجل الذي تحبه والذي تعلم مع الألم الشديد أنها تكبره بما لا يقل عن عشرة أعوام. تسعي روحية إلي استثمار عشيقها المحامي ليحول دون زواج ابنتها، لكن المفاجأة الصاعقة تتمثل في أن العشيق نفسه هو من يتزوج الابنة ويفر معها بمعرفة الأب، فكأن الزوج المخدوع بفعلته هذه ينتقم علي طريقته! جاء انهيار روحية مباغتا بلا تمهيد، فقد انتقلت بعد لحظات قلائل من الصدمة إلي هاوية الشيخوخة المظلمة، وتبخر جمالها، وذبلت حيويتها، وانتقم منها الزمن الذي راوغته طويلاً! الإدارة الحديدية مثلما يقدم نجيب محفوظ أمهات حنونات طيبات، وأمهات منحرفات أو ممزقات بين الأنوثة والأمومة، فإن عالمه الثري حافل بالأمهات القويات المسلحات بالإرادة الحديدية لمواجهة تقلبات وعواصف الحياة. أم عثمان بيومي، في حضرة المحترم، امرأة مكافحة تسهم بكل ما تملك من قدرة علي العمل الشاق ليتعلم الابن، وأم عيسي الدباغ في السمان والخريف عنيدة صلبة قوية الإرادة، وحليمة البركة في التوت والنبوت، الحكاية العاشرة والأخيرة من حكايات ملحمة الحرافيش، تقدم أنموذجا بالغ الأهمية للأم التي تنهض بالمسئولية وتقود السفينة الأسرية في بحر هائج العواصف. كانت أرملة في الثلاثين، تتسم بالجدية والأمانة وقوة الشخصية، عندما تزوجها ربيع سماحة الناجي. أنجبت ثلاثة أبناء: فائز وضياء وعاشور، ثم مات الزوج دون أن يترك لأسرته مليمًا واحدًا. اعتمدت حليمة علي قوة إرادتها وعزيمتها لتربية أبنائها، فأقامت في بدروم مكون من حجرة ودهليز، واستغلت مواهبها في بيع المخلل والمفتقة والخدمة كبلانة ودلالة، وأدخلت أبناءها الكتاب، قبل أن ينخرطوا في سوق العمل: أولهم، سواق كارو، وثانيهما: شيال في محل النحاس، أما الأصغر فعمل صبي غنام. لم يكن الاعتداء الذي تعرضت له حليمة البركة من الفتوة حسونة السبع بالشيء الغريب في الحارة، لكن إهانة الأم أوجعت ضياء وعاشور، وكان فائز قد اختفي بعربة الكارو التي يعمل عليها، قبل أن يعود بعد سنوات وجيها ثريا ليرتفع بأسرته الفقيرة إلي قمة مؤقتة، سرعان ما انهارت بعد إفلاس فائز وانتحاره. من الفقر إلي الثروة إلي الفقر من جديد، وعبر هذه التحولات تحتفظ حليمة بملامح راسخة، قوامها القوة والحكمة، أما مسار الأحداث المؤثرة فقد تكفل به الأبناء، وفي مقدمتهم عاشور الذي أعاد أسطورة جده بشكل جديد. سنية المهدي، في الباقي من الزمن ساعة، ربة بيت وأم حكيمة لا تعرف الضعف والتخاذل. تلقت صدمة قاسية عندما اقترن زوجها حامد برهان بجارة أرملة تماثله في السن، قبل أن يعود إليها وهو علي حافة الموت، أما الأبناء فمشاكلهم وهمومهم متنوعة: النشاط الإخواني لمحمد وما ترتب عليه من نتائج وخيمة سلبت إحدي عينيه وأصابته بالعرج، شبح العنوسة الذي حاصر كوثر قبل أن تتزوج من وجيه عجوز أنجبت منه أول الأحفاد، جمال منيرة وزواجها من شاب يصغرها مما أفضي بها إلي نهاية أليمة. سنية المهدي هي القاسم المشترك الأعظم في حيواتهم جميعًا، كما أنها الأكثر اعتدالا واتزانا وموضوعية في تقييم المراحل السلبية المتعاقبة، ويبقي حلم الاحتفاظ بالبيت، كأنه الوطن، هو أهم ما يداعبها من أحلام وطموحات. الصورة التذكارية التي تبدأ بها أحداث الرواية تعود إلي العام 1936، وكانت سنية في الأربعين، مما يعني أنها ولدت قبل نهاية القرن التاسع عشر بأربع سنوات، وتنتهي الرواية قرب نهاية السبعينيات من القرن العشرين، بعد أن تجاوزت الأم والجدة عامها الثمانين. سنية، علي نحو ما، شاهدته علي عصور متتالية متباينة، لكنها تتسم دائمًا بالصلابة والقدرة علي الصمود ومواجهة التحديات. في قلبها متسع للأبناء والأحفاد والزعماء، وفي مسيرتها غير الراكدة ما ينبئ عن مزيج من الأصالة والمعاصرة. في حكاياتها الأسطورية لحفيدها رشاد، الأقرب إليها والأحب، ما يكشف عن تاريخ العائلة والوطن معا، وفي تشبثها بالبيت القديم ما يرمز إلي ضرورة استمرار الوطن وحتمية أن يبقي ملكا لأبنائه، دون تفريط أو سقوط في شرك إهمال الهوية. أم حسن إذا كانت الست عين، في عصر الحب، تقدم أنموذحا للأم التي تجمع بين العاطفة غير المحدودة والقوة والحزم، في تعاملها مع الابن الوحيد عزت، فإن أم حسن، في بداية ونهاية، هي الأم الأكثر أهمية في منظومة القوة والعزيمة والإرادة. عليها يقع العبء الأكبر في إدارة شئون أسرتها، فقد خلف زوجها الراحل معاشا ضئيلاً، وابنة عاطلة من الجمال، وابنا صعلوكا مستهترا بلا علم أو عمل، وابنين يواصلان الدراسة في المرحلة الثانوية. في حياة زوجها، كانت أم حسن تمثل الطرف الأقوي والأقل عطفا وحنانا، وكانت مطالبة بعد موته المفاجئ أن تدير السفينة في بحر عاصف هائج مضطرب. وفي سبيل ذلك، قست وقترت، ووافقت علي امتهان ابنتها نفيسة للحياكة، وحرمت الابنين المراهقين من حق المصروف والكثير من المتع البسيطة. ليس أدق في التعبير عن شخصيتها مما يفكر فيه ابنها حسين، وهو الأشبه بها في السلوك والطباع: والحق أن أمه بين النساء كألمانيا بين الدول، قادرة علي الاستفادة من كل شيء ولو كان زبالة! كانت ترقع البنطلون حتي إذا بلغ اليأس قلبته، فإذا أدركه اليأس مرة أخري قصت أطرافه وجعلت منه سروالا داخليًا، ثم تصنع من بعضه طاقية وتستعمل بقيته ممسحة. ولا يلفظه البيت إلا فتيتا! لاينم سلوكها هذا عن بخل أصيل، ذلك أن الأعباء الجسيمة التي تواجهها تحتاج إلي حزم لا تهاون فيه، ونجاحها في قيادة السفينة العائلية فعل يشبه المعجزة. دفعت ثمنا فادحا، وفي سبيل الأسرة المهددة انهد حيلها وهرمت في عامين كما لم تهرم خلال نصف قرن من الزمان. لقد نحلت وهزلت حتي استحالت جلدا وعظاما، بيد أنها لم تستسلم للمحنة، ولم تعرف الشكوي، ولم تتخل عن سجاياها الجوهرية من الصبر والحزم والقوة، وكانت تعمل النهار كله، تطبخ وتغسل وتكنس وتمسح وترتق وترفو! الحنان كامن في أعماقها لا تبوح به، والحب موفور في قلبها دون إعلان أو تصريح، ذلك أن الأزمة الطاحنة لا تحتمل تدليلا أو رقة، ولقد أثمر جهادها عن توظف حسين، وتخرج حسنين في الكلية الحربية، والانتقال إلي عتبات الاستقرار والأمان، لكن العاصفة العاتية أطاحت بكل شيء. الشرطة تطارد الابن الأكبر المنحرف، والابنة العاهرة تُدفع إلي الانتحار، والابن الضابط وصولي انتهازي مفرط في الأنانية، لا يفكر إلا في مصالحه. غرقت السفينة علي الرغم من مهارة الربان وحنكته، ذلك أن أمواج البحر العاصف تفوق مهارته وقدرته! الإرادة القوية ملمح إيجابي جدير بالتقدير، وإن اختلط أحيانًا بالقسوة المبررة، لكن التطرف في الحزم يبدو فعلا مرذولا. هذا ما نجده في قصة قوس قزح، مجموعة بيت سيئ السمعة نظيرة مفتشة كبيرة بوزارة الشئون، والزوج من رجال التربية وعلم النفس. أم لثلاثة أبناء، وتمارس مع زوجها طقوسا مكررة، فهما يجتمعان بالأبناء لاتخاذ القرارات التي تنتصر دائمًا للعقل. وإذا كان الابنان الأكبر، سمير وهدي، يخضعان في استسلام واقتناع، فإن الصغير طاهر هو وحده من يتمرد. الأسرة منظمة إلي درجة ميكانيكية بلا روح، والأم تتحفظ كثيرًا في إظهار العاطفة والحنان حتي لا تتجاوز الحد المعقول!. وعندما تسوء الحالة النفسية لطاهر، ويغادر إلي المستشفي، يتماسك الأب ظاهريًا، أما نظيرة فتبكي بسخاء، متخلصة من التزمت العقلي الذي صنع المأساة! زوجة الأب لا يكاد القارئ للثلاثية أن يدرك وضعية أمينة كزوجة أب لياسين، فهي تعامله كواحد من أبنائها، ولا تمارس ضده نوعا من التمييز، لكن هذا السلوك الاستثنائي المثالي، المردود في المقام الأول إلي وداعة وطيبة المرأة، لا يعبر عن الصورة النمطية الأكثر شيوعا لزوجة الأب، في عالم نجيب محفوظ وفي الواقع الاجتماعي الذي يستمد منه مادته. توتر رضوان في قصة ثمن السعادة، مجموعة همس الجنون، طفل يتيم يتلقي درسا خصوصيًا من طالب جامعي شاب. ماتت أم توتو لعهد ولادته، وتزوج أبوه من شابة صغيرة، وتزوجت أخواته الأربع، ويعيش مع الأب العجوز الضعيف وزوجة الأب القاسية. يدفع الطفل البريء ثمن الزيجة غير المتكافئة، وتبدأ القصة بتأخره عن موعد الدرس، ثم دخوله باكيا، فقد ضربته زوجة أبيه تيزة.. ضربتني.. وتشاجرت مع بابا... علي الرغم من هذه المعاملة الجائرة، لاتتورع المرأة اللعوب عن اظهار الحنو الكاذب عليه، وهدفها الحقيقي هو مغازلة المدرس الشاب وجذبه إلي شباكها، لم يكن الطفل إلا جسراً تعبر عليه، أما الشاب الجامعي الطيب فيفكر في الحياة الشقية لتلميذه: توتو غلام بائس تضافرت عليه أسباب التنغيص الظاهرة والخفية! لا تقتصر قسوة زوجة الأب علي الأطفال وحدهم، ففي قصة أمشير مجموعة الشيطان يعظ تكيد جميلة الأسطي لابن زوجها الذي يماثلها في العمر، وتفلح مؤامراتها في طرده من القصر، دون مراعاة إلي حقيقة أن ابنها الوحيد خطيب وعاشق لابنة المطرود من بيت أبيه! تقدم القصة ثلة من المجرمين الأوغاد الذين لايتورعون عن انتهاج السلوك غير الأخلاقي، الذي لاتنجو منه زوجة الأب، لكن الأمر يمتد إلي الطبقة المتوسطة الأكثر تماسكا، فكأن التوتر يبدو حتيما بين زوجة الأب وأبناء الزوج. تفيدة زوجة أب متسلطة قاسية في قصة من تحت لفوق، مجموعة الفجر الكاذب، تبالغ في الإساءة إلي نعيمة، ابنة زوجها، وتعاملها كأنها خادمة، الكراهية بينهما متبادلة والعمل الشاق المتصل الذي تقوم به الفتاة، لا تجزي عليه بكلمة تعبر عن الشكر والامتنان!: لم يعد من المستطاع اكتراء خادمة في هذا الزمن، وها هي تسد هذا الفراغ بلا أجر، وبلا شكر وكأنه واجب تؤديه نظير لقمتها واقامتها في البيت المفترض أنه بيت أبيها إذعنت لوضعها التعيس كما يذعن أبوها لمشيئة زوجته، كلاهما يجد في الاذعان منجي من الكدر، ألفت الخدمة، وكراهية تفيدة هانم، وألفت ملابسها الخشنة الرخيصة الشعبية وحظها التافه في التعليم منذ أصرت المرأة علي ابقائها في البيت للمعاونة مضحية بمستقبلها ومستسلمة لحقدها الدائم، ولم تلق عند أبيها الضعيف أي دفاع، لم تجد نصيرا فقد فقدت أمها وهي بنت ثمانية أعوام. الابنة غريبة في بيت أبيها، والإحساس بالظلم والاضطهاد يسيطر عليها، والأب الضعيف الخانع عاجز عن منح الحب والحنان والرعاية، تمتد سيطرة تفيدة إلي الزوج المطيع قليل الحيلة، لكن انحيازها إلي بناتها لايجديهن في شيء، ذلك أن أشباح الأزمة الاقتصادية تطول الجميع، بل إن نعيمة هي وحدها التي تنجح في الزواج، بعد تمردها وتحولها إلي خادمة محترفة! الاضطهاد الذي تمارسه زوجة الأب لا يلحق الأذي بغريمتها، ولايفيد بناتها، فقد تغيرت القيم والمعايير التقليدية! في المجموعة نفسها، وفي أسرة تنتمي أيضا إلي الطبقة المتوسطة، يقدم نجيب محفوظ قصة القضية وفيها ترفع زوجة الأب، بعد أن تقدم بها العمر وذبل شبابها، قضية تطالب بنفقة شرعية من أبناء زوجها الراحل، يبدي الراوي دهشته لأن زوجة أبيه قد نهبتهم وسرقتهم بعد موت الأب، واستولت علي كل ما في خزانته من مال، تزوجت وهي بنت عشرين من مقاول شبه أمي في منتصف الحلقة السادسة، وفجر الزواج غير المتكافئ عاصفة هددت أبناء الزوج، الذين أحسوا بالخطر الذي يحاصرهم. يتكفل الزمن بإفلاس من استحوذت علي ثروة الأب: امرأة عقيم، تزوجت وطُلقت مرات وهي في عنفوان جمالها، وفي كهولتها وقعت في غرام طالب، ذهبها بدوره ثم ذهب!. ليست الكارثة في أن يتزوج الرجل ويجلب لأبنائه امرأة لا تحنو عليهم ولا تحبهم، ولكن المشكلة المزمنة في ارتفاع أسهم التنافر والتوتر والصدام، فالأمومة قيمة غريزية مقدسة لا يسهل تعويضها عبر أم بديلة، وهذه القداسة قد تتحول إلي رمز وطني يتجاوز محيط الأسرة الصغيرة إلي عموم الشعب. الأم المقدسة تو تيشيري، في كفاح طيبة أم الملك سيكنزع، وجدة الملك كاموس، الجدة الكبري لأحمس بطل التحرير، فهي بمثابة الملكة الأم الجديرة بالتقديس والاحترام غير المحدود، والمسكونة بالوطنية والحكمة. كانت في الستين من عمرها عند سقوط طيبة في أيدي قوات الهكسوس الغازية، ويعبر نجيب محفوظ عن السمات العامة لشخصيتها المؤثرة في قوله: الرأي الذي يرجع إليه في الملمات، والقلب الذي يلهم الأمل والكفاح، وقد أقبلت في فراغها علي القراءة، وكانت تديم المطالعة في كتب خوفو وقاقمنا وكتب الموتي وتاريخ العهود المجيدة التي خلدها أمثال مينا وآمنحتب، وكان للملكة الوالدة شهرة عظيمة في الجنوب جميعه، فما من رجل أو امرأة إلا يعرفها ويحبها ويقسم باسمها المحبوب، وذلك أنها ثبت فيمن حولها وعلي رأسهم ابنها الملك سيكنزع وحفيدها كاموس حب مصر جنوبها وشمالها وكراهية الرعاة المغتصبين الذين ختموا العهود الجليلة اسوأ ختام. بعد الهزيمة، هاجرت تو تيشيري مع الأسرة الملكية إلي النوبة، وهناك واصلت بث الحماس في صفوف الجنود الذين يستعدون لخوض حرب التحرير، ولم تكن فكرة عودة أحمس إلي طيبة، متخفياً في زي تاجر، إلا من وحي حلم للملكة الأم، زارها فيه الرب آمون!. لعبت تو تيشيري دورا بالغ الأهمية في الإعداد النفسي والمعنوي للمعركة، وعلي الرغم من تقدمها في السن، وما أصابها من ذهول ووهن، فقد كانت تسير بين الجنود، وتتفقد استعدادهم، وتلقي عليهم كلمات حماسية: وكان الرجال يرونها فينسون أنفسهم وينتفضون حماسة وإقبالاً، فتبتسم المرأة استبشاراً. قدر للملكة الأم أن تعيش حتي تري مصر المحررة المستقلة، وأبت أن تدخل طيبة قبل التحرير الشامل لكل الأراضي المصرية، وعندما تحقق المراد، وعادت تو تيشيري إلي القصر القديم، خانها قلبها لأول مرة، القلب الذي تحمل وصبر، وغذي القلوب بالأمل والرجاء..... إنها الأم المقدسة!