مواكب المحتفلين تجوب شوارع الأقصر في ختام صوم العذراء (صور)    تنفيذا لقرار نقابة المهن التمثيلية .. درية طلبة تمثل أمام لجنة مجلس تأديب من 5 أعضاء    محمد الشناوي يشكر من قدم العزاء في وفاة والده    ماذا لو أن سعد القرش لم يكتب سوى عن ذاته فى روايته «2067»؟    مصدر ب"التعليم" يوضح موقف معلمي المواد الملغاة في الثانوية العامة    تراجع جماعي للبورصة المصرية وخسائر 5 مليارات جنيه    خلافات أسرية تتحول إلى مأساة بالدقهلية: مقتل سيدة وإصابة ابنتها طعنًا    وزير الإسكان يستقبل محافظ بورسعيد لبحث ملفات العمل والتعاون المشترك    أسعار سيارات ديبال رسميا في مصر    جمال رائف: القمة المصرية السعودية تؤكد وحدة الصف العربى وتعزز التعاون    تصعيد إسرائيلي واسع في غزة.. وضغوط تهجير مضاعفة في الضفة الغربية    تنسيق الجامعات.. برنامج متميز بكلية التربية جامعة حلوان يؤهلك لسوق العمل الدولي    استعدادًا لمواجهة مودرن سبورت .. وصول حافلة الزمالك إلى استاد قناة السويس    سلوت: نيوكاسل من أفضل فرق البريميرليج.. وهذه مزايا ليوني    الأنبا إيلاريون يترأس صلاة العشية ويلقي عظة بعنوان "بتولية السيدة العذراء"    السيسي يصدر قانونًا بتعديل بعض أحكام قانون الرياضة    القضاء على أخطر بؤرة إجرامية في أسوان ومصرع عناصرها عقب تبادل لإطلاق النيران مع قوات الشرطة    الداخلية تكشف ملابسات محاولة سرقة مواطن بالجيزة    تُطلقها السكة الحديد اليوم.. ما هي خدمة ""Premium"؟    مفاجأة في تحليل المخدرات.. قرار عاجل من النيابة بشأن سائق حادث الشاطبي    "تعليم الفيوم" يطلق حملة توعية رقمية شاملة بالتعاون مع الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات    خبراء سوق المال: قطاعا الأسمنت والأدوية يعززان النمو في البورصة    العمر مجرد رقم.. قصة عروسين يتحديان السن ويدخلان عش الزوجية فى المنوفية بعد سن ل70    خالد الجندي: الإسلام لا يقبل التجزئة ويجب فهم شروط "لا إله إلا الله"    هل يستجاب دعاء الأم على أولادها وقت الغضب؟.. أمين الفتوى يجيب    لأول مرة.. جامعة القناة تنجح في جراحة "دماغ واعٍ" لمريض    متصلة: بنت خالتي عايزة تتزوج عرفي وهي متزوجة من شخص آخر.. أمين الفتوى يرد    «العربية للعلوم » تفتح أبوابها للطلاب بمعرض أخبار اليوم للتعليم العالي    قمة الإبداع الإعلامي تناقش تحديات صناعة الأخبار في عصر الفوضى المعلوماتية    رحيل الشاعر الكبير مصطفى السعدني صاحب «ياست الناس يامنصوره»    الإسماعيلي يتلقى ضربة جديدة قبل مواجهة الطلائع في الدوري    إيران: العقوبات الأمريكية على قضاة بالجنائية الدولية تواطؤ في إبادة وقتل الفلسطينيين    بقيمة 8 ملايين جنيه.. الداخلية توجه ضربات قوية لتجار العملة غير المشروعة    رئيس المعاهد الأزهرية يتفقد المشروع الصيفي للقرآن الكريم بأسوان    لا أستطيع أن أسامح من ظلمنى.. فهل هذا حرام؟ شاهد رد أمين الفتوى    محافظ شمال سيناء يبحث مع نائب وزير الصحة تعزيز تنفيذ خطة السكان والتنمية    نجاح أول عملية استئصال ورم بتقنية الجراحة الواعية بجامعة قناة السويس    7 عروض أجنبية في الدورة 32 من مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي    رغم قرار رحيله.. دوناروما يتدرب مع سان جيرمان    جني جودة تحصد 3 ذهبيات ببطولة أفريقيا للأثقال وشمس محمد يفوز في وزن + 86كجم    مصدر ليلا كورة: أعمال استاد الأهلي مستمرة والتربة الصخرية لا تعيق الحفر    195 عضوًا بمجلس الشيوخ يمثلون 12 حزبًا.. و3 مستقلين يخوضون الإعادة على 5 مقاعد في مواجهة 7 حزبيين    نقيب الأطباء: نرحب بجميع المرشحين ونؤكد على أهمية المشاركة بالانتخابات    لو كنت من مواليد برج العقرب استعد لأهم أيام حظك.. تستمر 3 أسابيع    أحمد سعد يتألق في مهرجان الشواطئ بالمغرب.. والجمهور يحتفل بعيد ميلاده (صور)    وكيل مجلس النواب: زيارة الرئيس السيسي للسعودية تعكس عمق العلاقات بين البلدين    "جهاز الاتصالات" يصدر تقرير نتائج قياسات جودة خدمة شبكات المحمول للربع الثاني    الجيش الروسي يحرر بلدة ألكسندر شولتينو في جمهورية دونيتسك الشعبية    الرئيس اللبنانى: ملتزمون بتطبيق قرار حصر السلاح بيد الدولة    وكيل صحة الإسماعيلية تفاجئ وحدة طب أسرة الشهيد خيرى وتحيل المقصرين للتحقيق    الجامعة المصرية الصينية تنظم أول مؤتمر دولي متخصص في طب الخيول بمصر    رئيس مركز القدس للدراسات: الحديث عن احتلال غزة جزء من مشروع "إسرائيل الكبرى"    هبوط جماعي لمؤشرات البورصة في نهاية تعاملات الخميس    الزمالك يناشد رئيس الجمهورية بعد سحب ملكية أرض أكتوبر    غلق الستار الأليم.. تشييع جثمان سفاح الإسماعيلية    مدبولي: نتطلع لجذب صناعات السيارات وتوطين تكنولوجيا تحلية مياه البحر    الداخلية: تحرير 126 مخالفة للمحال المخالفة لقرار الغلق لترشيد استهلاك الكهرباء    توسيع الترسانة النووية.. رهان جديد ل زعيم كوريا الشمالية ردًا على مناورات واشنطن وسيول    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأم في عالم نجيب محفوظ "2" احتراف الدعارة.. يفسد الأخلاق ولا يسلب الأمومة
نشر في روزاليوسف اليومية يوم 22 - 03 - 2010

تحظي الأم بمكانة بالغة الأهمية في عالم نجيب محفوظ الروائي والقصصي وهو ما يتوافق مع القيمة السامية للأم في الحياة المصرية وفي الحياة الإنسانية لجميع المجتمعات والشعوب وعلي الصعيد الشخصي لعبت أم الكاتب الكبير دورا إيجابيا في تشكيل شخصيته وتحديد مساره وفي حواراته مع الناقد الراحل رجاء النقاش المنشورة في كتاب "نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه وحياته" يري نجيب أن أمه التي لم تكن تجيد القراءة والكتابة كانت "مخزنا للثقافة الشعبية" ودائمة التردد علي المتحف المصري فضلا عن غرامها بسماع الأغاني خاصة للشيخ سيد درويش ويعترف نجيب بأن علاقته مع والدته كانت أوثق من العلاقة مع أبيه من ناحية لأنه لازمها وأقام معها باستمرار ومن ناحية أخري لأن العمر قد امتد بها طويلا بعد وفاة الأب.
يقدم أدب نجيب محفوظ رؤية عميقة شاملة لأنماط مختلفة من الأمهات: الطيبات الوديعات، المرحات المسكونات بالأسي، المسرفات في التدليل إلي درجة الإفساد، المهملات السلبيات اللامباليات، المنحرفات والعاهرات، الممزقات بين احتياجات الأنوثة ومشاعر الأمومة وصولاً إلي المسلحات بالإرادة الحديدية والقوة التي تعين علي تحمل المسئولية ومواجهة التحديات.
هل من تعارض بين الأمومة واحتراف أعمال مشينة مجافية للقيم الدينية والأخلاقية؟! الأمومة عاطفة مقدسة، وغريزة قادرة علي الصمود في مواجهة جميع التحديات والمصاعب. من هنا، لا موضع للتعارض والتناقض بين الأمومة والتدهور الأخلاقي، مع ضرورة التأكيد أن الأخلاق نسبية مراوغة، خاضعة لقوانين التطور واختلاف الزمان والمكان.
أمهات وعاهرات
نور الحياة في قصة روض الفرج مجموعة همس الجنون" تهرب مبكراً من بيت الزوجية، وتترك ابنها رضيعاً في رعاية ابيه، وإذا بالابن نفسه يقع في غرامها، عند وصوله إلي سن المراهقة، دون أن يعرف أنها أمه!. يصل الأب لإنقاذ ابنه، وإذ يعرف شخصية نور الحياة تنهال شتائمه علي الغانية، وتكتشف المرأة المستهترة أن عبد المعز، الذي تحبه وتعطف عليه، هو الابن الذي هجرته قبل سنوات طوال. تنتصر أمومتها بطبيعة الحال، وتصده بقسوة متعمدة إذ يعود إليها بعد أن سرق أباه، بل إنها تحتمل صفعته المدوية التي هوت علي وجهها، ولا تعلق علي استنكاره أن تشبه نفسها بأمه: "لا تشبهي نفسك الآثمة بأمي الطاهرة فتلقي رقدتها الآمنة أيتها العاهرة"!
تمتلئ القصة بأحداث غرائبية، وتلعب الصدفة دوراً رئيسياً في بناء أحداثها وتغيير مسارها، أما عن ندم عبد المعز علي الصفعه التي وجهها لمن خدعته، فيبدو مفتعلاً وبعيداً عن الإقناع، ذلك أن رد فعله منطقي مبرر لا يستدعي الندم.
السقوط في مستنقع الرذيلة لا يسلب من نور الحياة أمومتها، والحياة غير الأخلاقية التي تعيشها العوادة زنوبة، في "الثلاثية"، لا تحول دون استقرارها أخيراً زوجة لياسين عبد الجواد وأماً لكريمة.
كان زواجهما مفاجأة وصدمة، لكن الزوج صمد أمام ضغوط أبيه، وحرص في الوقت نفسه علي التمسك بسلوكه المستهتر. وإذا كان زواج زنوبة من الموظف ابن التاجر صعوداً اجتماعياً إيجابياً، فإن خالتها زبيدة لا تبدي سعادة أو فخراً، بل تري أنها أفلست كعالمة فتزوجت! لقد قررت زنوبة، بإرادة حديدية وعزيمة صادقة، أن تغير مسارها من الحرام إلي الحلال، ونجحت في التخلص من ماضيها والإندماج في حياتها الجديدة. لم تستمر مقاطعة أسرة ياسين لها، وبدأ تبادل الزيارات، وكانت المواجهة مع عشيقها القديم ووالد زوجها أحمد عبد الجواد، عندما زارته في مرضه، دليلاً حاسماً علي أن الصفحة القديمة قد طويت: "فتقابلا كشخصين جديدين لا تاريخ مشترك بينهما".
اندمجت زنوبة في أسرة زوجها، وبدت مثالاً للاحتشام وتجنب التبرج والمبالغة في الزينة، وحظيت العوادة السابقة بشهادة طيبة من أمينة : لاشك أن أصلها طيب، ربما أصلها البعيد، فليكن.. ولكنها بنت حلال، وهي الوحيدة التي عمرت مع ياسين".
ذهبت العوادة المستهترة بلا رجعة، وتحولت زنوبة إلي زوجة ملتزمة وأم صالحة. قد يكون صحيحاً أن حياتها الزوجية لا تخلو من شجار ونقار، وأن أسلوبها في تربية ابنتها كريمة وابن زوجها رضوان، الذي لا يحبها، أقرب إلي العشوائية والارتجال والاعتماد علي الغريزة، لكنها نجحت بذكائها في ترويض ياسين، وتزويج الابنة، وتجنب الصدام مع ابن الزوج. وعلي الرغم من أن ياسين لا يخفي ضيقه بها أحياناً إلي حد الضجر، فقد كان يشعر دائماً بأنها أصبحت شيئاً ثميناً في حياته، لا يمكن الاستغناء عنه.
رحلة طويلة مرهقة قطعتها زنوبة، لتنتقل من دونية العوادة إلي ذروة الاستقرار والاحترام، واستطاعت أن تفرض وجودها وتحظي بالاعتراف والشرعية.
العاهرة عطية، في "السكرية، ترتبط بعلاقة وثيقة مع كمال عبد الجواد، منذ أن عرفها في بيت القوادة جليلة. لم تعمل في "المقدر" إلا بعد طلاقها، ويذهب كمال إلي أنها امرأة طيبة عاثرة الحظ، لا تمارس حياة الدعارة إلا مضطرة وإذ يقول لها مرة: "إن ما بيننا ليسمو فوق النقود!، تجيبه محتجة كاشفة عما يعتمل في أعماقها: "ولكن لي طفلين يفضلان النقود علي ما بيننا"!
هذان الطفلان هما أهم ما في حياتها، وفي سبيلهما تحترف العمل الذي يحتقره المجتمع ويزدريه: "روحها المسكينة في ابنها، وهو إذا مسه سوء طارت أبراج عقلها".
قد يدفعها مرض الابن الحبيب إلي أن تتأخر عن مواعيد العمل، لكن القوادة تعي أنها ستجئ حتماً: "أليس المريض في حاجة إلي النقود!".
فلة وزينات
فلة، الزوجة الثانية لعاشور الناجي في الحكاية الأولي من ملحمة "الحرافيش"، بدأت حياتها عاهرة في البوظة، ثم استقرت في بيت الفتوة الأسطوري وأنجبت منه شمس الدين.
اختفي عاشور، وترملت فلة، وصعد الابن إلي عرش الفتونة مواصلاً مسيرة أبيه، في المعركة الأولي التي خاضها الفتوة الشاب، يعايره الخصوم بأمه، ويقول له فتوة العطوف وهو يتوثب للالتحام: "أقدم يا بن الزانية.. أقدم يا بن عاهرة خمارة درويش!".
لا يعرف شمس الدين إن كان ما يقال محض سباب مما تفتتح المعارك به: "أم هو تاريخ يعلمه الجميع ويجهله هو بحكم حداثة سنه؟".
تاريخ فلة معروف للجميع، أما الدفاع الذي يقدمه الأنصار والمؤيدون فعاطفي إنشائي لا يعتمد علي منطق مقنع: "إن امرأة يختارها عاشور الناجي زوجة له ووعاء لذريته، لا يمكن أن ترتقي إليها شبهة من الشبهات"!.
لا تبدي فلة ترحيبًا بزواج شمس الدين من عجمية، وبدافع التحدي والعناء تلوح بعرض الزواج الذي تلقته من عنتر الخشاب، أما عن العلاقة مع زوجة ابنها فقد اتسحت بالتوتر والصراع، ولذلك تعود أرملة الفتوة الخارق إلي طرح فكرة الزواج من عنتر، لكنها تصب بالحمي، وتتدهور صحتها إلي أن تسلم الروح.
بعد موت فلة: "تطايرت شائعات في الحارات المعادية بأن شمس الدين دس السم لأمه ليمنعها من الزواج، وتمادوا فقالوا إنه اكتشف علاقة غير مشروعة بينها وبين عنتر الخشاب"!.
ما يقال ليس صحيحا، لكن احتراف فلة للدعارة قبل زواجها من عاشور الناجي، يمثل عنصرا مهما في التشهير بآل الناجي، عبر المراحل التاريخية التالية، وأداة للبرهنة علي أن سجلهم لا يخلو من الشوائب والأخطاء والخطايا.
ولقد كانت زينات عشيقة للفتوة جلال في "جلال صاحب الجلالة"، الحكاية السابقة في ملحمة "الحرافيش".. قبل علاقتها مع الفتوة، كانت واحدة من بنات الهوي، تقيم في شقة صغيرة فوق بنك الرهونات، ويعشقها الوجهاء.
احتجب جلال عاما كاملا متصلا ليظفر بالخلود، وبعد الخروج من عزلته لم تستمر العلاقة مع زينات علي النحو القديم. تحرر من سطوتها، فلم تعد إلا وردة جميلة في حديقة ملأي بالورود، واشتعلت الغيرة في أعماق العشيقة المهجورة فدست له السم، يموت الفتوة في مشهد غرائبي لا ينسي واعترفت له زينات بدوافعها: "قتلتك لأقتل حياة العذاب".
عاشت زينات فترة من الرعب والترقب بعد موت جلال، لكن أحدا لم يوجه إليها اتهاما، وبقيت وحيدة زاهدة بلا قلب ولا راحة: "واكتشفت عقب موت جلال بفترة من الزمن أن حبهما قد خلق في بطنها ثمرة فحرصت عليها بقوة حبها الخالد، وملكها شعور بالفخار رغم أنها ثمرة غير مشروعة، وأنجبت ذكرا فسمته جلال بكل جراءة وصراحة متحدية به التقاليد".
لم ينل الابن غير الشرعي اعترافا من جده وعمه، وعاش مجهول النسب علي الرغم من الملامح التي تؤكد صلته بالفتوة الراحل، أما زينات فقد نفدت مدخراتها، وتحيرت عندما تلقت عرضا بالزواج من المعلم الجدع، الذي يعمل ابنها جلال في خدمته، لكن العريس نفسه تراجع بعد نصيحة من شيخ الحارة: "كيف تركن لامرأة قتلت ذات يوم رجلها؟!".
ماتت زينات فجأة عن ثمانين عاما، وصدم جلال بموتها وفقد توازنه بكي في جنازتها، وطال حزنه عليها طويلا، ثم انقلب ليهاجمها بضراوة وعنف، ويؤكد أنها بلا حسنات أو مزايا، وتمتعت بعمر طويل مريح لا تستحقه!.
ما الذي غيره فجأة؟، ولماذا انقلب عليها؟!. سؤالان غامضان تصعب الاجابة عنهما!.
صانعة المأساة
الانحراف عن الحياة السوية لا يؤثر علي عاطفة الأمومة بطبيعة الحال، لكن الأمر لا يخلو من آثار سلبية وخيمة تطول الأبناء. في حالتي فلة وزينات، تأثر الابنان شمس الدين وجلال بتاريخ أمهما غير القابل للنسيان أو الغفران، لكن الذروة نجدها في "الطريق". بسيمة عمران قوادة محترفة، وصاحبة المسئولية الأكبر عن المصير الذي انتهي إليه ابنها صابر، بعد أن شكلت طفولته، وماضيه، وأفسدت شبابه وحاضره، وبشرته بمستقل مشرق مختلف لا يملك من مؤهلاته إلا فكرة البحث عن الأب الضائع!.
قضت بسيمة في السجن خمس سنوات، وخرجت مريضة محطمة لا قدرة لديها علي مواصلة العمل الذي لا تتقن سواه، لكنها تمتلك خبرة هائلة بنفوس الناس، وتترجم ذلك بكلمات حادة تزعم فيها أنها أشرف من أمهات الذين يعايرون ابنها: "ألا يعلمون أنه لولا أمهاتهم لبارت تجارتي"!. لا شك أن حياة بسيمة عمران حافلة بالرجال، وواحد من هؤلاء هو أبوصابر، أخبرت ابنها أنه ميت، لكنه حي في مكان مجهول!.
أحبها منذ ثلاثين عاما، وتزوجها، ثم هربت بعد معاشرة أعوام وهي حبلي، هربت مع رجل من أعماق الطين!.
قد يكون صحيحا أن بسيمة عمران وفرت لابنها من أسباب السعادة المادية ما يعجز عنه آلاف الآباء والأمهات من الشرفاء الفقراء، لكن الصحيح أيضا أنها غادرت الدنيا دون أن تورثه شيئا: مفلس ضائع، يفتقد الحرية والكرامة والسلام، وفاشل محبط بلا علم أو عمل، وصولا إلي القتل وانتظار حبل المشنقة.
علي النقيض من حياتها المليئة بالصخب والمغامرات والصراعات، جاء الموت هادئا. ذهب صابر ليوقظها فوجدها ميتة في سريرها، وهي لم تزل بالملابس التي غادرت بها السجن.
جنازة القوادة بسيمة عمران امتداد لحياتها غير الأخلاقية، فقد شيعها تجار المخدرات والبلطجية والبرمجية والقوادون، فضلا عن العاهرات اللاتي لا تخفي ملابسهن السوداء فجورهن!.
هل من شك في حب بسيمة لابنها صابر؟! المؤكد أنها أحبته في إسراف وفق ما تملك من قيم، وأن أمومتها هي العاطفة النقية الوحيدة في حياة قوامها التهتك والابتذال، لكن السؤال الذي يطرح نفسه بالنظر إلي طبيعة عملها: أي نوع من الحب؟!، وما الجدوي من ورائه؟!
الأمومة والأنوثة
لا صدام بين الأمومة والأنوثة، وليس محكوما علي المرأة أن تتخلي عن أنوثتها في سبيل أمومتها، لكن الأعراف والقواعد الاجتماعية تفرض قيودا متعنتة تدفع المرأة إلي الوقوع في براثن الحيرة والتمزق بين مطلبين لا ينبغي أن ينشأ بينهما تناقض ونفور: الأمومة والأنوثة! هنية، الزوجة الأولي للسيد أحمد عبدالجواد في "الثلاثية"، وأم أكبر أبنائه ياسين. لم يستمر زواجها بأحمد طويلاً، فهي ضحية لتسلطه ومبالغته في التحكم والسيطرة. أدمنت لعبة الزواج والطلاق، فضلاً عن العلاقات الجنسية غير المشروعة. وفي غرفة التذكارات السوداء لابنها ياسين، كثير من الذكريات المؤلمة المحزنة. قصتها المريبة المشينة مع "الفكهاني" لا تبرح مخيلة الابن، الذي انفصل عنها ليقيم مع أبيه.
زيجات كثيرة متتالية، وأزواج متنوعو المهن والأعمار، وشهية للحياة بلا حدود، دون تمييز صارم بين الشرعي والمحرم. الثمن يدفعه ياسين، تمزقا نفسيا وألما يعكر صفاء الروح ويهدد التوافق مع العالم المحيط به.
هنية امرأة وأم، والمشكلة المستعصية أن طليقها وابنها لا يريان إلا جانب الأمومة وحده، غافلين عن أنوثتها التي تحن إلي الزواج، وتسعي إلي الإشباع الجنسي. التقدم النسبي في العمر يفرض تنازلات لا مفر منها، وإذا كان تاجر الفحم والباشجاويش وغيرهما من الأزواج يقاربونها في العمر، فإن العريس الأخير صاحب مخبز في الثلاثين من عمره! أهو "فسق في ثياب زواج" كما يقول أحمد عبدالجواد ممتعضا ساخطا؟! ياسين يرفض "فكرة" زواج أمه بشكل عام، لكنه يبدي تأثرًا أكبر بالزيجة الأخيرة غير المتكافئة: "ومع أن المرأة تزوجت أكثر من مرة، ومع أن الزواج كان - في نظر ابنها - أشرف سقطاتها، إلا أن هذا الزواج الجديد المتوقع بدا أفظع من سوابقه وأمعن في الإيلام، لأن المرأة استوت علي الأربعين من ناحية، ولأن ياسين اكتمل شابا مدركا بوسعه إذا شاء أن يدفع عن كرامته الإساءة والهوان من ناحية أخري".
سلوك هنية ليس مثاليا خاليا من العيوب، لكن ياسين وأباه تسكنهما أنانية طاغية، فلا يريان في حياتهما إلا الجانب السلبي المظلم، ويتجاهلان حقها المشروع الذي يمارسه الأب وابنه، كل علي طريقته! يقول الأب، بلسانه دون قلبه وعقله، إن الزواج علاقة مشروعة شريفة، ويرد الابن الموجوع في غير اقتناع: "هو علاقة مشروعة حقا يا أبي ولكنها تبدو أحيانًا أبعد ما تكون عن الشرع".
"بعيدة عن الشرع" لأنها أمه، ولأن المخاوف تراوده من ظهور شريك في ميراث ينبغي أن يئول إليه وحده!. زيارة ياسين لأمه، في محاولة لإثنائها عن قرار الزواج، تتسم بالكثير من الجفاف والقسوة، ومواجهته لها صارمة عنيفة. تتساءل: "ما وجه العيب في أن تتزوج امرأة بعد طلاقها؟"، ويفكر ياسين ساخطا: "لا عيب في أن تتزوج امرأة بعد طلاقها، أما أن تكون المرأة أماً فهذا شيء آخر، شيء آخر جدًا. وأي زواج الذي تعنيه؟! إنه زواج وطلاق ثم زواج وطلاق ثم زواج وطلاق؟ هناك ما هو أدهي وأمر، ذلك الفكهاني! أيذكرها به؟ أيصفعها بما في نفسه من مر ذكرياته؟ أيصارحها بأنه لم يعد جاهلا كما تظن؟ وأرغمته حدة الذكريات علي الخروج من اعتداله هذه المرة فقال بامتعاض شديد: زواج وطلاق، زواج وطلاق، هذه أمور شائنة لم تكن لتليق بك، ولشد ما مزقت نياط قلبي بلا رحمة".
لكل منهما منطقه المختلف، وتقارب وجهتي النظر أقرب إلي المستحيل. منطلقاتها تنبع من وضعيتها كامرأة تأبي التسليم بالضياع الكامل للشباب والأنوثة، ومرتكزات ياسين تعلي من شأن الأمومة وما يحيط بها من قداسة وزهد، فلا يليق بأمره أن تكون امرأة! التاريخ القريب للشاب حافل بالكثير من الذكريات الكئيبة، وما صرح به ياسين غاضبا، في المواجهة العنيفة مع أمه، لا يمثل إلا جزءًا يسيرًا مما في نفسه. تؤمن هنية أنها سيئة الحظ، ولا شك في ذلك، وبحثها الدائم عن الرجل، بما يمثله من إشباع، يصطدم بأنانية عمياء تسلبها حقا أصيلا، ولا تمنحها مقابلا يستدعي الضحية.
ماتت هنية بعد شهور قلائل من زيجتها الأخيرة، لكن الذكريات السوداء لا تبارح ذاكرة ياسين!
التشبث بالشباب
في "الثلاثية" أيضًا، تظهر شخصية أم مريم، بهيجة، زوجة السيد محمد رضوان، الجار الملاصق لأحمد عبدالجواد. يقترن ظهورها الأول المؤثر بزيارة أحمد في منزله للشفاعة، بعد أن طرد زوجة أمينة، وتنم مفرداتها في الحوار عن استعداد للغزل، لا يخفي علي خبير محنك مثل أحمد.
بعد فترة قصيرة من موت زوجها الذي طال مرضه، تبدأ علاقة جنسية بين بهيجة وأحمد، وكانت المرأة التي طال حرمانها هي التي بادرت وشجعت.. بقدر ترحيب أحمد بالعلاقة علي المستوي الحسي، فإن تقييمه لأم مريم يبدو سلبيا أقرب إلي الاحتقار، من منظور أخلاقي لا يلتزم به، وكأنه خارج القوانين: "هذه المرأة التي باتت أقرب ما تكون إلي فؤاده وأبعد ما تكون عن احترامه في لحظة واحدة"!
لم تدم العلاقة طويلا، فقد استشهد فهمي في ثورة 1919، وزهد أحمد لسنوات في النساء، ورد بهيجة دون تردد عندما راودت إعادة الصلة بينهما.
ياسين أحمد عبدالجواد من الرجال الذين مروا بمحطة أم مريم، بعد أن سبقه الأب، فقد ذهب الشاب المسكون بالشهوات ليخطب ابنتها، فإذا به يجد فيها استعداداً لم يهمله، لا تبالي بهيجة باختطاف عريس ابنتها، وهي تغالط بلا منطق عندما تري أن مريم "شابة في عز جمالها، ولم تقدم خاطبا اليوم أو غدا!.. وكأنها كانت تعتذر عن أنانيتها، أو تلمح إلي أنها هي -لا ابنتها- التي يضيرها فقده"!
مل ياسين سريعا وآثر أن يتزوج مريم، أما بهيجة فقد عادت إلي حياة الوحدة من جديد، قبل أن تفجر قنبلة مدوية بزواجها المريب من بيومي الشربتلي.. زيجة غير متكافئة بطبيعة الحال، ولا مبرر عند أم مريم إلا رغبتها الطاغية في الجنس.. هل تعجز عن إشباع رغبتها، مع بيومي أو غيره، دون زواج؟! هذا ما يفكر فيه أحمد عبدالجواد، متأملا ومحللا علي الرغم من ثورة الغضب التي اجتاحته: "ألا يكون الإحساس المحزن بالكبر هو الذي جعلها تفزع إلي الزواج، بل والتضجية بكثير مما تملك جريا وراء سعادة كان يضمنها لها الشباب الذي تخلي عنها؟". لم يطل زواجها الأخير: "مع نهاية الأسبوع الثالث منه شكت دملا في ساقها، ثم تبين بالكشف الطبي أنها مصابة بمرض السكر فنقلت إلي قصر العيني، وترامت الأخبار عن خطورة حالها أياما، ثم وافاها الأجل المحتوم".
ما أسهل إدانة بهيجة واتهامها بكل نقيصة، دينية وأخلاقية واجتماعية، لكن المؤكد أنها ضحية لجملة من الظروف الضاغطة: زوج طال مرضه، ترمل يفضي إلي الوحدة والفراغ، عاشق يتنكر لها، وآخر يتسلي بها قبل أن يتزوج ابنتها؛ الابنة التي انتهي بها المطاف إلي حانة صغيرة من الحانات الشيطانية المصاحبة للحرب العالمية الثانية، وكأنها تواصل مسيرة الأم! بهيجة ليست بالأم المثالية الصالحة، فهي مفرطة في أنانيتها إلي درجة نسيان الأمومة وإلحاق الأذي بالابنة الوحيدة.. تزوجت مريم من شخص مجهول وطلقت، ثم تزوجت من ياسين وطلقت، واختفي كل أثر لها حتي يراها شقيق طليقها، كمال عبدالجواد، تدير الحانة التي توحي بالكثير من التغيير الذي طالها.
أم ياسين وأم مريم، هنية وبهيجة امرأتان وأمان، والصراع محتدم بين الإحساس بالأنوثة من ناحية ورفض الخضوع لدور الأم الزاهدة من ناحية أخري.
"وللحديث بقية"


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.