بقدر ما أسعدنا واعتقد أنه أسعد الشعوب العربية كلها، الاعلان عن رحيل توني بلير رئيس وزراء بريطانيا وأصدق أصدقاء الرئيس الأمريكي جورج بوش وسياساته بقدر ما أحزننا، وأحسب أنه لابد وأن يحزن الشعوب العربية كلها، مجيء نيكولاي ساركوزي سيدا لقصر الإليزيه لمدة ست سنوات قادمة، وهو المعجب بالسياسات الأمريكية خاصة توجهات السياسة الخارجية والذي استحق بجدارة لقب بوش فرنسا. وبالقدر الذي كانت فيه المصالح العربية والعلاقات التقليدية والتاريخية بين انجلترا والعالم العربي أحد الأسباب الرئيسية لارغام بلير علي التخلي عن رئاسة الوزارة البريطانية ورئاسة حزب العمال خاصة فيما يتعلق بحرب العراق والمصالح البريطانية في العالم العربي، بقدر مالعب العرب خاصة الجاليات العربية والإسلامية دورا مهما في الدفع بساركوزي إلي مقعده الرئاسي في مقر الاليزيه وليعلن بدون لف أو دوران انه سيخرج علي نصوص السياسة الفرنسية التي كانت سائدة طوال قرابة نصف قرن منذ أيام ديجول وحتي جاك شيراك مرورا بفرانسوا ميتران. لقد نجح جاك شيراك اليميني في الانتخابات الفرنسية لبرنامج ديجولي أقرب إلي اليسار، كما ان فرانسوا ميتران الاشتراكي سار وطوال 14 عاما قضاها في السلطة علي منهج ديجولي إلي درجة أنه بعد انتخاب جاك شيراك كتب أحد الفرنسيين في مجلة ليموند الفرنسية ليقول، وماذا ترك الجيروند لليعاقبة؟ والمعروف أن الجيروند كانوا يمثلون السجن في الثورة الفرنسية الأولي، فيما كان اليعاقبة يحتلون مقاعد اليسار. ولكن ساركوزي المنتمي إلي الحزب الديجولي وهو نفس حزب جاك شيراك يخرج علي اليعاقبة والجيروند ويخرج ببرنامج يركز في النهاية علي قضيتين أساسيتين. القضية المحورية الأولي هي محاصرة الهجرة الأجنبية إلي فرنسا ورغم انه هو نفسه ابن أحد المهاجرين من المجر في الخسمينيات، ولكنه يعني في الأساس الهجرة من جنوب المتوسط وبشكل أخص من الشمال العربي الأفريقي. وقد نجح ساركوزي في اثارة حساسية اليمين الفرنسي ضد هؤلاء المهاجرين الذين يحرمون الفرنسيين من فرص العمل - البطالة في فرنسا تتجاوز 10 - وأيضا لأنهم يهددون القيم الثقافية الفرنسية علي حد تعبيره ويحملون معهم بذور الإرهاب وجراثيمه، وقد بان موقفه بوضوح أيام هبة الضواحي في باريس وبعض المدن الفرنسية حين كان وزيراً للداخلية في العام الماضي والشراسة والعنف التي واجه بها تلك الهية والتي وصفها بأنها حركة لصوص وحثالة ومرتزقة. أما المحور الثاني لسياسة ساركوزي فهي الخروج تماما علي الخط الديجولي فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الفرنسية، وإعطاء الأولوية للتحالف الأطلنطي - أمريكا وأوروبا - علي حساب الأولوية التي وضعها ديجول للوحدة الأوروبية من جبال البرانس في أسبانيا وحتي جبال الأورال في روسيا. وهذان المحوران يمثلان القاعدة الأساسية لما أطلق عليه ساركوزي نفسه بالسياسة الجديدة والقطيعة مع الماضي، هذا الماضي الذي تواصل قرابة خمسة عقود أي أن ساركوزي حقق نبوءة دونالد رامسفيلد وزير دفاع بوش السابق في تعليق له علي موقف فرنسا وألمانيا المعارض للغزو الأمريكي للعراق. لقد قال رامسفيلد أيامها إن أوروبا القديمة - وكان يعني فرنسا في عهد شيراك وألمانيا في عهد المستشار شرويدر - مازالت تتمسك بسياسات بالية لابد أن تتغير لتلحق بأوروبا الجديدة وأحسب أن ساركوزي ومعه المستشارة الألمانية اليمينية المحافظة أنجيلا ميركل سيحدثان عودة أوروبية في اتجاه التعاطف والتعاون مع السياسات الأمريكية علي حساب السياسات السابقة للبلدين. لقد كان ديجول هو الذي وضع المقومات الأساسية لبناء الوحدة الأوروبية وتأكيد التحالف بين فرنسا وألمانيا باعتبارهما قاعدة هذه الوحدة واستطاع ديجول في جمهوريته الخامسة ان يتجاوز سدودا وحواجز تاريخية بين البلدين كانت تجعلهما الديكين المتعاركين في أوروبا طوال حوالي قرنين من الزمان أي منذ الحروب النابليونية في القرن التاسع عشر وحتي الحرب العالمية الأولي والثانية في القرن العشرين. وسار فرنسوا ميتران - الاشتراكي - علي نفس المنهج رغم انه كان يعلن العداء للجنرال الفرنسي وقاد معارضة شرسة ضده ابان عظمته ودخل الانتخابات مرتين في مواجهته فشل فيهما وذلك قبل أن ينتخب في أوائل الثمانينيات أي بعد موت ديجول بحوالي عشر سنوات. ورغم هذا فقد التزم ميتران في السياسة الخارجية بالقواعد والمبادئ العامة التي أرساها ديجول طوال رئاسته التي امتدت 14 عاما، كما التزم شيراك اليميني وطوال 14 عاما بهذا الخط الذي سار عليه سلفه الاشتراكي، أي أن ديجول الذي جمد نشاط فرنسا العسكري في حلف الأطلنطي منذ الستينيات وأعلن احتجاجه علي السيطرة الأمريكية علي السياسات الأوروبية، وجد في ميتران الاشتراكي خلفا صالحا لسياساته، فهو لم يحافظ فقط علي المنطلقات الاستراتيجية للسياسة الخارجية الديجولية بل عمل علي تعميقها وتأصيلها. أما فيما يتعلق بالسياسات الفرنسية ازاء الصراع العربي الإسرائيلي، كان ديجول هو الذي حطم العلاقة الخاصة التي كانت تربط بين فرنسا وإسرائيل حيث كانت فرنسا في الخمسينيات هي الراعية الأولي لحماية إسرائيل وزودتها بالمفاعلات النووية بجانب مشاركتها في العدوان الثلاثي علي مصر، وكان موقف ديجول المبدئي بإدانة العدوان الاسرائيلي سنة 1967 تأكيدا لانعطافة واضحة في التعاطف مع القضايا العربية والمشكلة الفلسطينية، وفي عصر ميتران وشيراك تواصل هذا التعاطف بل التعمق. والواقع أن الوضع السياسي في فرنسا، كان يعكس مناخا عاما ساد أوروبا في المرحلة اللاحقة لانتهاء الحرب الباردة، حيث تراجعت إلي حد كبير الاعتبارات الأيديولوجية وطفت علي السطح المشاكل الواقعية، وكان من الطبيعي والأمر كذلك أن تسقط حدود وفواصل كثيرة بين الجيروند واليعاقبة الفرنسيين. ويأتي نجاح ساركوزي معاكسا تماما للسياسات الفرنسية التي تواصلت قرابة نصف قرن، ويعود إلي رفع رايات الجيروند الذين كانوا ومازالوا معجبين بسياسات الولاياتالمتحدة، وان كنت أتصور أن اليعاقبة لم يخسروا المعركة بعد. فهناك انتخابات أكثر أهمية في الشهر القادم قد تعيق تشكيل الجمعية الوطنية الفرنسية وتحول الرئيس نيكولاي ساركوزي إلي بطة عرجاء.. دعنا نأمل.