لم يجلس توني بلير في منزله يوما واحدا كرجل علي المعاش، ففي اليوم الذي ترك فيه منصبه كرئيس للوزراء تم تكليفه من قبل الأممالمتحدة، والاتحاد الأوروبي، والولاياتالمتحدة، وروسيا كممثل للرباعية الدولية لعملية السلام في الشرق الأوسط. لم يكن ذلك مفاجأة لي، فمثل بلير وفي عمره وفي الظروف المحيطة بالعالم والشرق الأوسط، لن يجلس في بيته والعالم مشتبك في حرب واسعة كان هو أحد منظريها والساعين إليها. ومن الواضح أن الولاياتالمتحدة كانت وراء هذا الترشيح، وأنها سعت عند الأطراف الدولية والإقليمية الأخري لقبوله والموافقة عليه. وهذا الدور الجديد لتوني بلير يبعث علي القلق، فلم يكن بلير يوما ما مخلصا للقضية الفلسطينية أو الفلسطينيين. بل كان تابعا عن اقتناع للولايات المتحدة وإسرائيل لأنه رأي مستقبل العالم فيهما بأكثر مما يراه في العرب والمسلمين. وأتذكر وعود بلير المتتالية أثناء حرب أفغانستان، وسعيه لحشد التأييد قبل حرب العراق ببيع وعود وأحلام عن فلسطين لم تتحقق، وكانت حكومته تدوسها في كل مرة تصوت فيها بريطانيا ضد أي قرار لصالح الفلسطينيين في مجلس الأمن أو الجمعية العامة. يُمثل بلير في حد ذاته نموذجا خالصا في صعوده وهبوطه للرجل السياسي المحترف في العالم الغربي، حيث الباب مفتوح دائما أمام الجميع لخدمة المصلحة العامة، وترجمة الأفكار والمفاهيم إلي واقع ملموس فوق الأرض، ومن خلال صناديق الانتخاب، وتسلق السلم من أوله بالسرعة التي تناسب الطموح والكفاءة والنصيب المتاح من الحظ والتوفيق. لقد وُلد بلير في مايو 1953، وأصبح عضوا في البرلمان عن دائرة سيدجفيلد في يونيو 1983 وعمره 30 عاما، وزعيما لحزب العمال في 1994 وعمره 41 عاما، ثم أصبح رئيسا للوزراء في 1997 وعمره 45 عاما. وسجله حافل بإنجازات قياسية في التاريخ البريطاني، فقد حقق أطول مدة كرئيس للوزراء في حزب العمال (عشر سنوات)، كما أنه الأول بين رؤساء حزب العمال الذي قاده إلي النصر في ثلاثة انتخابات عامة متتالية. أما صعود بلير داخل الحزب، فإنها قصة طويلة تعكس عملية الفرز القاسية التي يتعرض لها الرجل العام في الدول الديمقراطية العريقة حيث كل شئ موضع تقييم من أول شخصيته وأفكاره وقدرته علي انتهاز الفرص وعمل التحالفات إلي مهارته في القراءة الصحيحة للأحداث والمستقبل. والمهمة الكبري التي أنجزها بلير من خلال زعامته لحزب العمال، قيامه بتحديث الحزب والانتقال به من عصر الاشتراكية التقليدية وأحيانا المتطرفة إلي عصر الاشتراكية الواعية بأحكام العولمة والقائمة علي التعاون قبل التصادم، والمشاركة قبل الخوف. وقد كان ميثاق الحزب قبل بلير يؤكد علي "الملكية العامة لوسائل الإنتاج" ويسمح "بالتأميم" بل يًحض عليه، لكن بلير غير ذلك في مؤتمر خاص في أبريل 1995 فجعل الحزب ممثلا للاشتراكية الديمقراطية، وأطلق علي الحزب لقب حزب "العمال الجديد". وكان يصف أيديولوجية الحزب في عهده بأنها تقع علي شمال الوسط، في حين رأي منتقدوه أنها تقع بعيدا ناحية اليمين. وعلي الرغم من أنه احتفظ بقوانين مارجريت ثاتشر العمالية المتشددة، إلا أنه كان أول من وضع حدا أدني للأجور في بريطانيا، ومنح حقوقا للشواذ، وأدخل قوانين السوق إلي مجالات التعليم والصحة والمواصلات، وأدخل قوانين لمكافحة الإرهاب، وفرض لأول مرة في التاريخ البريطاني حمل بطاقة شخصية لكل البريطانيين. لكن أشهر ما صدر عن بلير بمجرد توليه منصب رئيس الوزراء قوله، إن أولوياتي ثلاث: التعليم، والتعليم، والتعليم. علي المستوي السياسي والاستراتيجي حقق بلير السلام في أيرلندا الشمالية بعد ثلاثين عاما من الصدام والعنف الدامي. وبجانب علاقته القوية مع كلينتون، جعل من بريطانيا حليفا قويا للولايات المتحدة. وبدءا من أحداث 11 سبتمبر، شاركت بريطانيا الولاياتالمتحدة في الحرب ضد الإرهاب، ثم في حرب أفغانستان والعراق؛ والحرب الأخيرة هي التي وضعت نهاية حكم بلير ونزلت بشعبيته إلي الحضيض. ومقارنة بغيره من قادة الغرب، يري بلير بوضوح أن الحرب ضد الإرهاب عالمية، وأنها تقوم علي أيديولوجية مضادة للغرب والعولمة والتقدم، ويري أن الحرب في العراق وأفغانستان ضرورية للدفاع عن بريطانيا والتحالف الأطلنطي، وأنها حرب طويلة ربما تستغرق عقودا قادمة. وكان إيمان توني بلير دائما عميقا بمحورية التحالف مع الولاياتالمتحدة والرئيس بوش، والغريب أنه اقتنع بأفكار المحافظين الجدد، حتي أن نيلسون مانديلا وصفه بوزير خارجية الولاياتالمتحدة. ولقد أثرت هذه العلاقة كثيرا علي صورة بلير أمام البريطانيين، لكنه كان يردد دائما وعن اقتناع أن من مصلحة بريطانيا حماية وتقوية علاقتها مع أمريكا مهما كان الرئيس الموجود في البيت الأبيض. وبالإضافة إلي علاقته مع اليمين الأمريكي كان توني بلير علي علاقة قوية باليمين الأوروبي في إيطاليا وأسبانيا وألمانيا. وفي 12 يناير 2007 ألقي طوني بلير خطابا رائعا أمام المعهد الملكي البريطاني لأفرع القوات المسلحة المشتركة، وهو من مراكز البحث والتعليم الإنجليزية العريقة وكان لي شرف زيارته عدة مرات. كانت كلمة بلير نموذجا رفيعا للتقييم الاستراتيجي من رئيس وزراء مدني أمام جمع من العسكريين والمسئولين السياسيين. قال بلير وكأنه يُلقي خُطبة الوداع: بعد عشر سنوات في مقعد الحكم نقوم حاليا بمراجعة كل جوانب سياستنا الخارجية التي تقوم علي ثلاث ركائز. الأولي علي حماية قيمنا ومصالحنا، ولا يوجد انفصال بين الاثنين في عصر العولمة والاعتماد المتبادل؛ والثانية تتصل بوجودنا ضمن تحالف له جناحين، الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، والركيزة الثالثة تقوم علي تعزيز قدراتنا "الصلبة" والمقصود بها العسكرية و"الناعمة" والمقصود بها الدبلوماسية والاقتصادية. وأشار بلير في كلمته إلي الإرهاب بوصفه حركة عالمية لها جذور عميقة، ولها تصور للعالم وموقع الإسلام منه، وأن منطلقات هذه الحركة قد تكون مغرقة في الرجعية، ولكن وسائلها حديثة إلي درجة مفزعة. وبلير بشكل عام ليس من المؤمنين بأن الإرهاب ناتج عن أسباب منطقية إذا زالت اختفي الإرهاب، بل يراه تحديا عالميا مستقلا يعتمد علي نشر الفوضي، ويستغل تردد الشعوب والحكومات في مواجهته، والخوف من خوض حروب طويلة وسط ضغوط إعلامية لا ترحم. ومن الواضح أن تاريخ توني بلير مع مشكلة الشرق الأوسط لا يبعث علي التفاؤل. فليست له إنجازات تضارع ما فعله رجل مثل كارتر أو كلينتون. وبمراجعة تاريخ بلير، نجد أنه بمجرد التحاقه بحزب العمال سجل اسمه في "مجموعة أصدقاء إسرائيل" وهي مجموعة برلمانية داخل حزب العمال تعمل علي تقوية العلاقة بين بريطانيا وإسرائيل. ثم أصبح بلير بعد ذلك وثيق الصلة مع شخصيات يهودية بريطانية ومن بينهم لورد ليفي الذي دعم ماليا حزب العمال واختاره مبعوثا له في الشرق الأوسط في عام 2002 قبل حرب العراق بفترة قصيرة. وفي 2004 تعرض بلير لنقد شديد من خمسين سفيرا بريطانيا علي المعاش ومن بينهم سفير بريطانيا في بغداد وفي تل أبيب بسبب سياساته فيما يتصل بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي وحرب العراق، كما انتقدوا موقفه من المستوطنات وخريطة الطريق. ثم خلال حرب الصيف بين إسرائيل ولبنان في 2006 تعرض بلير لنقد من أعضاء حكومته بسبب فشله في إيقاف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، كما تعرضت إسرائيل لنقد من شخصيات بريطانية بسبب تعرض المدنيين اللبنانيين للقصف الإسرائيلي. وفي النهاية من غير المتصور أن بلير قد قبل تمثيل الرباعية الدولية لمجرد شغل أوقات الفراغ، بل لعله يري في المهمة الجديدة تحديا حقيقيا لقدراته علي تحقيق شئ فشل فيه الجميع، أو أن القضية الفلسطينية قد تداخلت بشكل مفزع مع الحرب ضد الإرهاب، وأن هذا التداخل سوف يؤثر مباشرة علي كل الجبهات الأخري في أفغانستان والعراق والصومال. وهو قبل غيره أول من يري أن القاعدة التي كانت منذ ست سنوات قابعة في أفغانستان تتقدم الآن علي جبهة واسعة لتصل إلي بقاع كثيرة في الشرق الأوسط وأوروبا والعالم.