المتأمل لحياتنا الاجتماعية يكتشف "عورات" كثيرة، ربما كانت أولي بالاصلاح من الاصلاح السياسي، هذه العورات تقف حائلا أمام التطور، خذوا علي سبيل المثال لا الحصر: قضية "العشم"، فالعشم، قيمة شرقية لا أنكرها ولكن تبدو سخيفة إن لم يكن العشم في محله فعندما "يطب" علي زائر بدون موعد لأنه "متعشم"، أرفض ذلك العشم! وعندما يقدم لي صديق شابا "أخنف" من أسرته لكي أساعده للمثول أمام لجنة الاستماع في الاذاعة، فأنا أخجل من مصارحته بأنه لا يصلح لأن هناك عيبا في أنفه، فيغضب من الصراحة ويقول انه لجأ إلي من باب العشم! وعندما يطلب مني بلدياتي أن أنشر أشعار شاب صغير وهي من عينة (قطتي ظريفة، دائما لطيفة، لها حركات طريفة)، اعتذر لأنها محاولات ساذجة في مرحلة الهواة، ويصرخ بلدياتي (ده أمير الشعراء شوقي بك بدأ زي الولد ده) فأرد عليه (شوقي بك موهبة بزغ شمسها مبكرا، أما هذا الشاب، فعليه أن يقرأ ويقرأ حتي تكون له ثقافة شاعر)، ويقوم بلدياتي ويوجه لي لوما بأن كان عنده (عشم) كبير في شخصي وقد أصيب بخيبة أمل! أقول في هذه اللحظة (يستمد العشم) من العورات الاجتماعية المدمرة اننا دائما شاغلنا الآخر. "ندس" أنوفنا في حياة الآخرين، يأكلنا الفضول لنعرف أسرار حياة الآخر، في أي عمل، يحلو لكثيرين أن يفتشوا في حياة الآخرين، في أوروبا والعالم الأول، هناك احترام للخصوصية، كل واحد في بيته يركز في نفسه وفي عمله وفي نشاطه ولا يدس أنفه في بيت جاره ولا يتقصي أخباره أو حكاياته وليس معني هذا إنه يعيش معزولا، انما يربطه بالجيران مجرد تحية الصباح أو المساء. هناك مسافة جغرافية ونفسية لا تسمح بالانشغال بالآخر، ولهذا كان العالم الأول متقدما، لا يخلط بين اللهو ووقت العمل، وغالبا ما يكون أصدقاء اللهو من غير زملاء العمل، لا أحد مشغول بحياة آخر، وفي المجتمعات العربية لا توجد مسافة جغرافية أو نفسية وهذا يلغي فكرة الخصوصية وبالتالي يختلط الحابل بالنابل وكثيرا ما تحدث مشاكل بسبب هذه (الحميمية) في العلاقات انها ليست حميمية ايجابية لانها مؤذية اجتماعيا، وتصبح حياة الآخر كلها دولاباً من زجاج يكشف ما بداخله شاغلنا الآخر ولهذا نحن مجتمع النميمة وقراء صحافة النميمة وسميعة حكايات النميمة نحن مشغولون بتفاصيل حياة الآخرين، من يزوره وكم خادما عنده وكم تليفزيوناً في بيته، وأين يسافر كل اسبوع، وهذا الزائر غريب واللا قريب؟ ونستعين في أغلب الأحيان بالبوابين في العمارات فهم "وكالات أنباء" نشطة، تتوافر لديها معلومات كثيرة عن الآخرين. وبالتدقيق في المضمون كما يقول علماء الاجتماع، نكتشف ان الانشغال بالآخر يأتي من الفراغ، هذا الفراغ الهائل في حياتنا باستثناء قلة في المجتمع لا تجد وقتا (لتهرش)، هؤلاء لا يهتمون بالآخر ولا تعنيهم تفاصيل حياته، ومن أمثلة الانشغال بالآخر الذي صار (مهنة الصحافة) ان جاء صحفي شاب في مجلة ما يزورني، وبدأ يسألني: هذه اللوحة كم ثمنها؟ وهل أنت اشتريتها أم هدية؟ ثم يعود ويسأل وعربة الشاي هذه هل اشتريتها؟ قلت لا يوجد بيت يخلو من عربة شاي وهي قديمة وهدية زواج من عبد الحليم حافظ، واذا بالمصور الصحفي للمجلة يشبعها لقطات...!! هل هذا يرضي فضول القاريء؟ ربما! أليس الاسلوب "حشر أنوف"؟ أظن ذلك! هل هناك مجلات في العالم للنميمة وقد تذكر لون الملابس الداخلية لنجمة أو مغنية؟ نعم، ولكن هناك أيضا مجلات البحوث والسيكلوجي والأدب والموسيقي! وأريد أن أقول اننا بدأنا نقلد سيئات الغرب ولا نأخذ بسمات الغرب العظيمة كالجدية في العمل والموضوعية في النظرة والثقافة في الرؤية، أريد أن أقول إن (المترو) في أوروبا وسيلة ثقافة، دائما تجد انسانا يقرأ كتابا بين يديه أو صحيفة يومية. الخلاصة: ان الانشغال بالآخر يعطلنا عن اللحاق بالعالم حتي علماء مصر في المعامل واساتذة الجامعات ينشغلون بأخبار بعضهم في العلاوات والترقيات والانتدابات ولهذا تراجع العلم وتراجعت الجامعات،اتساءل: هل مصر عبرت الزمن الزراعي إلي العصر الصناعي؟! وسؤال آخر هل مجتمع العلم الجاد سيقضي علي ظاهرة الانشغال بالآخر؟ وبالتحديد: هل تستقط دولة النميمية والنمامين وندخر طاقتنا لبعث هذه الأمة؟ انه أمل.