الكتابة مغامرة فوق الورق, وعلي سن قلمي موضوعات شتي يتوق للولوج فيها بجسارة, فمن مخلفات الانتخابات, الي اعتكاف البابا, الي الحكومة الموازية(!), الي أسماك القرش التي فقدت عقلها(!) علي حد تحليل وزير سياحتها, الي ارتفاع أنابيب البوتاجاز الي أحوال الطقس السيئ, الي اضرابات مقطورات الحوادث, الي زلزال موقع ويكيليكس, ولكن قلمي جنح كالسفن الشاردة الي موقع آخر يدلف فيه الي زلازل النفس وبراكينها الصغيرة, فكل فعل بشري وراءه هاجس نفسي, فالرجال ينتظرون ما لا يأتي, والنساء يقفن دامعات علي رصيف الانتظار, انه( انتظار) شئ ما عبر مشاهد حياتنا وأزماننا, قد يستغرق العمر. مددت يدي بجسور سلام وود للآخرين وكنت مجاملا أغلب الأحيان ومنافقا في أحيان أخري, فبعض الناس ليس وسطي المزاج ولا يبتهج إلا اذا حدثته عما ليس فيه, وكنت أشتاق للود في المقابل, غير اني فوجئت أن المتحولين منهم بدأ الملالة والصدود وخان حبي, وكان الجزع وهي كلمة قلما استخدمها ولكنها فرضت نفسها, فليس غيرها يعبر عن حالي, تمد يدك بالود فتعود إليك معضوضة, ولما تكرر الجزع وسلطت عقلي علي نزوات القلب الحائر, خرجت برؤية وربما خبرة حياتية وهي: لا تنتظر شيئا من أحد. في حياتي وحياتك كلمة ساحرة تذكرك بأجواء الشهامة والرجولة اسمها( العشم) وتحت بند العشم قدمت خدمات لمن دق علي بابي, خدمات مادية وأخري معنوية, فكيف أتجاهل دقات الباب وهي باسم العشم؟ ثم اكتشفت أن ما قدمته بيدي ارتد حسدا وحقدا مع اني أعرف جيدا المقولة الشهيرة اتق شر من أحسنت إليه, وقد اختنقت واكتأبت وانزويت, ذلك اني انتظرت امتنانا لا جحودا, وأدركت الخطأ حين راهنت علي الود والامتنان وبعبارة أعمق حين تسلقت شجرة الانتظار ثم وقعت من فوق أحد فروعها الطرية ولم أكن قد اهتديت بعد الي رؤيتي الخاصة: لا تنتظر شيئا من أحد. الحس الشعبي يقول اعمل الخير وارميه في البحر ويقول أيضا يابخت من نام مظلوم مش ظالم, ويقول مرة ثالثة ما يحسد المال إلا أصحابه, موروثات غريبة نتناقلها جيلا بعد جيل, موروث يتنبأ بالغدر اذا فعلت الخير ويطلب منك أن ترميه في البحر وتستريح, وموروث يفتقد العدالة ويعتقد أنه لابد من ظالم ومظلوم, وموروث يحذرك من الكلام عما تملك بعرق جبينك, نحن في الشرق مشدودون الي قيم التشاؤم والخيبة وفي العالم الأول, عمليون يفهمون لعبة الحياة أقصد بورصة الحياة, يقول لك الواحد منهم لا تنتظر شيئا من أحد. أنا لا أنكر أن في البلد متطوعين ولكن ثقافة التطوع في الأغلب الأعم غائبة, التطوع هو بذل جهد دون انتظار المقابل, ولكن التطوع للخدمة, غالبا ما يأتي من مقتدرين, أنا لا أتصور متطوعا عن فقر إلا في المحن والكوارث بحكم الجغرافيا أو الطبقة, المتطوع لا يبغي من وراء هذه القيمة لا شهرة أو ضوء, فإذا ما سلطت الأضواء علي المتطوعين, فقدت عنصر الخير فيها, المتطوع هو فاعل خير لا ينوي الاعلان عن اسمه أو رسمه وبالتالي هو لا ينتظر شيئا من أحد. إن نصف آلام العلاقات الإنسانية بين الرجال والنساء هو الانتظار لشئ ما, ربما كان الصدق في المشاعر, وربما كان الجوع للحنان, وربما كانت الرغبة في الاحتواء, وما أبغض مشاعر سد الخانة عندما يمثل أحد الطرفين علي الآخر أو يصدر أحاسيس مزورة للآخر أو يشعر أنه( يجند) نفسه للاهتمام باهتمامات الآخر, ان كلمة مجرد كلمة تأتي علي لسان أحد الطرفين, تشغل البال وتشعل حريق الشك والوساوس, ان تصبح سعادة الرجل معلقة علي كلمة تنطق بها امرأة ما, هو العذاب بعينه, وأن ترتبط بهجة امرأة بكلمة يقولها رجل ما من بين لفائف الدخان, هو الانكسار بعينه. علمتني الحياة أن تنبع سعادتي من داخلي, علمتني الحياة ألا أعتمد علي أحد بقدر ما اعتمد علي نفسي, علمتني الحياة ألا تكون المرأة من( معوقات العمر) وكثيرات من النساء تجاوزن أهمية الرجل في دفتر أيامهن ومضين. نعم, الدرس العميق: لا تنتظر شيئا من أحد. من الطبيعي أن تحلم وتتمني وتشتهي, وعليك دائما بالانتظار حيث مواسم الحصاد, لكن الانتظار الطويل الذي يحني الهامات ويذل الرقاب هو أسوأ انتظار, ولست انتقص من قيمة الانتظار, فهو من مفردات النضال الممزوج بحبات العرق.. وليس ذلك الانتظار الذي يعصف بالكرامة ويرهق الروح ويفتت الحلم ويسرق الفرح, انه السقوط في بئر الاحباط, دعني أرمي لك بطوق النجاة حتي لا يلتف حبل الانتظار حول رقبتك: لا تنتظر شيئا من أحد. أظن أن الاستغناء.. قوة!