"التوربيني" شاب عمره لا يزيد عن ثمانية عشرة عاما تعرض للاعتداء في صغره فانتقم من المجتمع كله وقتل 16 طفلا علي الأقل وكان في مقدوره أن يقتل أضعاف هذا العدد من أطفال الشوارع الذين لا عدد لهم ولا يوجد من يسأل عنهم..! فالتوربيني ومعه شركاؤه "بزازة" و"حناطة" و"بقو" كونوا عصابة للموت تعيش في السراديب وفوق أسطح القطارات وفي العشش والخرائب والأماكن المظلمة، وهم يظهرون لاصطياد الضحايا من الأطفال الهاربين أو حديثي التشرد ويعتدون عليهم جنسيا وإذا ما خرج هؤلاء الاطفال عن سيطرتهم أو وشوا بهم كان الموت مصيرهم..! فنحن أمام وقائع رهيبة كشفت عنها الصحف في تغطيتها لعمليات القتل التي ارتكبها التوربيني والتي كانت قنبلة جديدة انفجرت لتعكس اختلال الموازين في الشارع المصري وظهور قضية أطفال الشوارع من جديد كتعبير عن واقع جديد نلمسه في انهيار السلم الاجتماعي الذي أفرز هؤلاء البؤساء الذين أصبح وجودهم سبة في جبين هذا المجتمع. ولأننا كالعادة لا نتحرك إلا عندما تقع كارثة ما أو جريمة أو حادث ينفعل معه المجتمع فإننا لم نتحرك في مواجهة قضية أطفال الشوارع طوال السنوات الماضية إلي أن وصلت الآن إلي الحد الذي نشهد فيه هذا النوع من جرائم القتل بالجملة لأطفال مشردين لم يجدوا من يلجأون إليه..! ومع ذلك فإننا لن نتحرك أيضا في مواجهة هذه القضية التي تهدد أمن المجتمع كله لأنه لا يوجد هناك جهة تهتم أو تعالج هذه الظاهرة التي يتعامل معها البعض علي أنها مسئولية أمنية تقع علي عاتق رجال الأمن الذين يجب عليهم ملاحقة هؤلاء الاطفال والقاء القبض عليهم لتسليمهم إلي ذويهم أو ايداعهم اصلاحيات الأحداث أو دور الأيتام..! وفي الواقع فإن ذلك الإجراء لن يكون سبيلا لعلاج هذه المشكلة إذ إن هذه الاصلاحيات والدور هي المدارس والاكاديميات التي تؤهل هؤلاء الأطفال للإجرام المنظم وهي التي تقودهم نحو أبعاد جديدة للجريمة بعيدا عن طائلة القانون. ولقد وصل الأمر بالبعض أنهم يستخدمون هؤلاء الاطفال في جرائم العنف وأحداث العاهات بالآخرين أو القاء ماء النار لتشويه وجوههم وهم في أمان من أن هذا الطفل لن ينال عقوبة مؤثرة وأن القضاء سيقوم بإرساله مرة أخري إلي الاصلاحية لقضاء عقوبته فيها نظرا لصغر السن..! ولا يمكن علاج هذه المشكلة إلا في اطار اجتماعي يأخذ في الاعتبار الانهيار الذي شهدته الأسرة المصرية والتي كانت معروفة بتماسكها وأصبحت الآن بفعل العوامل الاقتصادية شديدة التفكك وضعيفة الرقابة وفقيرة التوجيه والارشاد ولم يعد للأب كلمته المسموعة ولم يعد للأم احترامها المعهود..! فالذي نعيشه حاليا هو واقع أشبه بما حدث في البرازيل التي كانت نموذجا لسطوة أطفال الشوارع وكثرتهم حيث لا مأوي لهؤلاء ولا جهة تحاول الاهتمام بهم والتي شكلت فيها هذا الظاهرة قلقا بالغا لدي بعض فئات المجتمع وهو الأمر الذي شجع علي ظهور ما عرف بعصابات قتل أطفال الشوارع للتخلص من مضايقاتهم ومن تهديدهم للحملات التجارية وللسياحة. ونحن نأمل ألا نري هذه الظاهرة وقد استفحلت إلي الحد الذي يشكل فيه هؤلاء الأطفال خطرا من هذا النوع إلا أن ما نراه لا يدفع إلي التفاؤل أو الاطمئنان فقد أصبح هؤلاء الاطفال بالفعل يشكلون خطرا وتهديداً علي السياحة وخاصة السياحة الخليجية، وما يتعرض له السائح الخليجي من ملاحقات من المتسولين والشحاتين من هؤلاء الاطفال لم يعد ممكنا السكوت عليه لأنهم لا يكتفون بالسؤال فقط بل امتدت أيديهم لتخطف وتسرق وتعتدي أيضا..! أن "التوربيني" وشركاءه الذين امتلكوا الشارع وفرضوا قانونهم الارهابي الخاص هم مثال لعشرات ومئات من هذه المجموعات التي لا تعرف دينا ولا أخلاقا، والتي تحمل حقدا هائلا علي المجتمع الذي ظلمها كثيرا والذي لم يحاول أن يمد إليها يد المساعدة الحقيقية واكتفي بأن يعزلها في مؤسسات "اصلاحية" لا يتولي أمرها اصلاحيون حقيقيون بل موظفون أصبحوا يخشون سطوة وإجرام هؤلاء الاطفال فتركوا لهم الطريق مفتوحا لمزيد من الانحراف والجريمة. اننا في حاجة إلي تشريعات رادعة تمنع استغلال الاطفال وتحظر تشغيلهم قبل سن معينة وتفرض العقوبات علي الاسر التي يهرب أطفالها ولا تقوم بالابلاغ عن ذلك أو التي تسيء معاملة الاطفال وتجبرهم علي الهروب.. وفي بعض الدول فإن هناك خطوطا هاتفية للاتصال لتقديم المساعدة والمعونة للأطفال الذين يتعرضون لاضطهاد أو انتهاك أو تحرش وهناك قانون يحمي الطفل ويوفر له الأمان والرعاية. ونحن في حاجة إلي أن نوقف تسرب الاطفال من التعليم ودراسة الاسباب المؤدية لذلك وعلاجها فكل طفل يهرب من التعليم في سن مبكرة سينضم في الغالب إلي طابور أطفال الشوارع وقد يكون توربيني آخر أو قد يكون "حلاوة" ويؤكل من "حناطة" و"بزازة" ليحمل هما وكرها وحقدا يصبه علي المجتمع كله وعلي الذين أهدروا كرامته..! [email protected]