لا أطالب هنا بالتأكيد بزيادة المعونات العسكرية الأمريكية لمصر بل ادعو الله ان يأتي قريبا اليوم الذي لا تحتاج فيه بلادنا لهذه المعونات لتقترب علاقاتها من القوة العظمي الوحيدة في العالم بعض الشيء من الندية.. وهذا حتي لا أستخدم تعبير "التخلص من التبعية" الذي يبدو انه لم يعد علي الموضة هذه الأيام. لكن يبدو بالفعل وكما كشفت التطورات الأخيرة ان مصر لها أهمية كبيرة بالنسبة للإدارة الأمريكية وتقوم بدور لا تملك واشنطن حتي التفكير في خسارته فبدون الجلبة والضجيج المعتاد وأخذ الرد الذي عهدناه في المرات السابقة رفضت لجنة المخصصات في مجلس النواب الامريكي منذ ايام اقتراح النائب الديمقراطي ديفيد اوبي بخفض حجم المعونة العسكرية المقدمة لمصر وقدرها 1.3 مليار دولار بسبب ما وصفه بسلسلة من "الانتكاسات الديمقراطية" وأقرت اللجنة مشروع قانون بشأن المساعدات الخارجية قائلة ان مصر "حليف قوي للولايات المتحدة وخفض المساعدات سيجعلها تلجأ الي دول اخري تبيع السلاح". لكن دور مصر بالنسبة لأمريكا لا يقتصر طبعا علي مشترياتها من السلاح الضئيلة بطبيعة الحال لذلك كان خطاب وزيرة الخارجية كونداليزا رايس للجنة كان اكثر توضيحا للأمر فقالت ان خفض المعونات لمصر سيضر ب"شراكة استراتيجية" تشكل "حجر الزاوية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط". وهذا هو مربط الفرس الذي جعل اللجنة ترفض الاقتراح الذي قال مقدمه انه كان يهدف الي توجيه "رسالة جادة" الي القاهرة بعد الانتقادات التي وجهتها لها الولاياتالمتحدة لابقائها المعارض أيمن نور في السجن واستخدامها لأساليب قاسية في التعامل مع المتظاهرين الذين يتضامنون مع القضاة ومطالبهم. لكن ما الذي تريده منا الولاياتالمتحدة لتغض الطرف عن ممارسات تعتبرها "انتكاسة للديمقراطية" في وقت تخوض فيه الحروب لفرض الديمقراطية بقوة السلاح ولا تكف عن الدعوة للإصلاح السياسي والديمقراطي في المنطقة؟ فالولاياتالمتحدة المتورطة في حروب لا يبدو انها علي وشك الانتهاء ضد ما تصفه بالارهاب في العراق وافغانستان التي اشتعلت فيها الاوضاع في الفترة الاخيرة بشدة كما تواجه مشاكل مع ايران ودخلت في حرب بالوكالة في الصومال بتمويل فصيل نصب نفسه "محاربا للارهاب" كل هذا في وقت يكسب فيه حلفاؤها الوقت انتظارا للإدارة الجديدة لا تجد واشنطن أمامها سوي مصر حتي تقف كما قال حافظ أبو سعدة الأمين العام للمنظمة المصرية لحقوق الإنسان لرويترز "سدا امام المشاعر الاسلامية المتطرفة كما انها وسيط مهم في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي ولاعب كبير من المنطقة ككل". إذن هذا هو ما قدمته مصر من خدمات سياسية تتعلق بمكافحة الارهاب وبالتالي لا يتصور ان تتخذ الولاياتالمتحدة مواقف متشددة ضد مصر لحثها علي فتح ابواب الديمقراطية التي قد تأتي بالاسلاميين الذين بالتأكيد لن يقدموا لواشنطن ما تقدمه لها الحكومة الحالية. ولكن علي الرغم من هذا الاهتمام الكبير الذي توليه أمريكا لمصر إلا أن لجنة المخصصات التابعة للكونجرس صوتت لصالح تحويل مبلغ 200 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية لمصر غير المستخدمة منذ سنوات إلي برامج اخري في مشروع القانون الذي يتعلق كذلك بتقديم مساعدات لمكافحة الايدز والسل والملاريا في العالم وتقديم المساعدات لدول تجري اصلاحات سياسية ومساعدات للعراق وافغانستان، وقال النائب جيم تولبي ان استخدام مصر لهذا المبلغ سيكون مرهونا بوفائها بمعايير فنية للاصلاح في القطاع المالي لم تنفذها حتي الآن.. وهذا أمر غريب فعلا اذ ان مصر وان لم تكن تتقدم علي مسار الاصلاح السياسي إلا ان الحكومة الجديدة تسير بخطي سريعة علي مسار الاصلاح الاقتصادي بالتوسع في الخصخصة بشكل بدأ حتي يثير قلق عدد من الدوائر في البلاد. وخلاصة الأمر أن مصر تقدم خدمات سياسية مهمة بالنسبة للولايات المتحدة لسنا هنا في معرض ابداء الرأي فيها، وفي المقابل تحافظ علي المعونات وهي الأكبر التي تقدمها امريكا لأي دولة باستثناء اسرائيل والتي حصلت عليها مصر بعد توقيع معاهدة السلام مع اسرائيل أي أن هذه المعونات دفعنا ثمنها بالفعل بمجرد التوقيع علي المعاهدة وحصلت اسرائيل علي مثلها لتوقيعها لكنها ظلت تطالب بعد ذلك بالمزيد وتحصل عليه، ومع ذلك فإننا نستمر في تقديم هذه الخدمات السياسية التي تعتبرها الولاياتالمتحدة مهمة لمجرد الحفاظ علي هذه المعونات ونتحمل ان تملي واشنطن شروطها علينا فيما يتعلق بالشق الاقتصادي من المعونات فتحدد هي المعايير التي يتعين علينا اتباعها لنتمكن من صرفها. والسؤال هو اذا كانت الخدمات التي نقدمها لأمريكا بهذه الاهمية فلماذا لا نتفاوض عليها ونحصل علي امتيازات اقتصادية أكبر وأهم بدلا من مجرد الخضوع لمعايير الاصلاح الاقتصادي المرسومة هناك؟ وإذا لم نكن نأخذ أي مقابل عليها فلماذا نستمر في تقديمها واهدار ثمنها مقابل طلب غض الطرف عن تجاوزات مثل ضرب المتظاهرين وحبس المعارضين إلا اذا كان عدم ضربهم وحبسهم يشكل خطرا علي الدولة وفي هذه الحالة تتغير الحسبة تماما فيكون هؤلاء ان يدركوا أهميتهم ويستغلونها كما يتعين علي الدولة ان تدرك أهميتها لأمريكا وتستغلها.