ينبع السلوك الاقتصادي للفرد من تكوينه النفسي وحالته المزاجية ويعكس ذلك السلوك تكوين صاحبه وسمات شخصيته، ومع زيادة الضغوط في الفترة الاخيرة التي فرضها واقعنا الاقتصادي اصبح سلوكنا الاقتصادي يتسم بشئ من الاضطراب ومنها سبيل المثال ان الكثيرين يتعاملون مع البورصة علي انها مصدر لهبوط الكنوز فيبيعون كل مالديهم من مدخرات ضرورية للمضاربة في البورصة وهو ما يجعلنا نطرح ذلك السؤال: هل يمكن ان يكون للطب النفسي دور في التصدي لهذه السلوكيات الاقتصادية ان دوره مازال قاصرا علي علاج المريض النفسي التقليدي؟ يوضح الدكتور هاشم بحري استشاري الطب النفسي بجامعة الازهر ان الصحة النفسية تهتم بالاساس بالبحث عن الرضا عن النفس ومساعدة الافراد علي التفكير العلمي والتعامل مع الازمات بصورة علمية ويلفت الي ان المجتمع اصبح يساعد علي توليد الشخصيات المريضة التي تتجه لسلوكيات غير سوية، يتضح ذلك من خلال اقبال الناس علي التعامل مع البورصة علي طريقة "افلام اسماعيل ياسين" حيث تكون البورصة سببا في هبوط ثروة من السماء علي شخص فقير وغبي! كما يلفت من ناحية اخري الي ان المجتمع اصبح يعزز القيم السلبية في نفوس الناس فنقرأ في الصحف ان مسئولا سافر الي رجل اعمال هرب الي اوروبا ليتفاوض معه علي العودة واستئناف نشاطه، وهنا يشعرالناس ان اللص المحترم لابد ان يلقي معاملة محترمة يحدث ذلك ايضا عندما نقرأ عن حصول ممدوح اسماعيل علي الجنسية الانجليزية مما يعني استحالة تسليمه لمصر، ونشعر ان من يقتل الاف الابرياء ويسرق الملايين لها يخضع للعقاب، وهكذا فإن فساد المجتمع يعزز السلوكيات الخاطئة في جميع المجالات ومنها المجال الاقتصادي. وينتقد الدكتور هاشم بحري عدم الوعي بمفهوم الصحة النفسية والتي تحتاج للمزيد من الندوات والدورات والتوعية عبر كل وسائل الاعلام بضرورة وجود تواصل بين المجتمع وبين الاخصائيين النفسيين لغرس مفهوم التأهيل للتعامل مع الازمات. ويدعو د. بحري الي ضرورة التخلي عن الصورة السلبية المهينة للمريض النفسي وكذلك للطبيب حتي يكون هناك وعي حقيقي بدور الطب النفسي خاصة اننا مازلنا حتي الان لا نعرف كثيرا اننا يمكننا اللجوء للطب النفسي لتحسين الاداء الحياتي والتغلب السليم علي الازمات. مواصفات خاصة ومن جانبه يري الدكتور احمد عكاشة استاذ ورئيس جمعية الطب النفسي ان الطب النفسي يمكن ان يتنبأ بسمات الشخصية المناسبة للتعامل مع البورصة والتي عادة ما تتسم بحب المخاطر واستمتاعها بالاشباع الفوري الذي تحققه البورصة من خلال التغير اليومي لاسعار الاسهم والتي تحقق لذة في الترقب والمتابعة.، كما ان الشخصية المناسبة للعمل في البورصة يجب ان تتسم بالنضوج العاطفي حتي تتحمل الصدمات وتستطيع التكيف معها بقدر من المرونة. ويري د. عكاشة ان مشكلة العديد ممن يضاربون في البورصة في مصر انهم عادة ما يكونون شخصيات تتمتع بحب المغامرة ولكنها تفتقد المرونة الكافية والجلد وبالتالي فإن الخسائر تسبب لهم صدمات وازمات نفسية، وتتركز المشكلات النفسية التي تسببها البورصة للمضاربين في كبار السن، ولذلك نجد من يعملون في البورصة في نيويورك لا تزيد أعمارهم في الغالب علي 35 عاماً لتمتعهم بالمرونة والجلد. وعن السلوكيات الاقتصادية الخاطئة التي تنتشر في المجتمع المصري يؤكد د.عكاشة انها ترجع في غالبيتها الي عدم ملاءمة الشخصيات التي تتصدي للنشاط الاقتصادي لطبيعة هذا العمل، كما ان اقتصادنا مازال قائماً علي الترقي بالاقدمية التي تهدد الاداء لان الافكار تتجمد وتتصلب مع تقدم العمر تماما كما تتصلب الشرايين، ومع ذلك يؤكد ان هناك بارقة امل في الاقتصاد المصري لاحت عندما بدأ الشباب يحتل مساحة اكبر في القرار الاقتصادي، ويستشهد د.عكاشة بمقولة للدكتور بطرس غالي حين قال ان الصحة النفسية مهمة للدول النامية لان الاقتصاد لن يزدهر بدون جودة الصحة النفسية التي تعزز الانتماء. صناع القرار أما الدكتور احمد ابوالعزايم استاذ الطب النفسي فيؤكد ان مشكلات الحياة الاقتصادية في مصر ترجع في جزء كبير منها الي فقدان واضعي السياسات القدرة علي القيادة وبالتالي لجوؤهم لفرض الرأي عن طريق القوة وهذا يهدد المجتمع بفقد القدرة علي التفكير والابداع. ويحذر من أن فقد الاستمتاع بالعمل له العديد من المشكلات ابرزها السلبية التي نشاهدها ونعانيها في جميع المجالات. وكذلك، فإن تخلي القطاع الخاص عن تقديم خدمات للمجتمع يعمل علي اضطراب توجهاته ويحدث ما يسمي بقصور العقلية المبدعة. ويوضح كذلك ان وعينا بدور الطب النفسي في شقه الوقائي مازال ضعيفا، فكما يتم التطعيم من شلل الاطفال يجب ان يكون هناك وعي بأهمية الوقاية من الاكتئاب والاستسلام للازمات. وكذلك يجب ان نفرق بين المريض النفسي الذي يعاني مرضا ما وبين الانسان الطبيعي الذي يحتاج لمساعدة نفسية في التغلب علي ازماته. القيم الجديدة ويضيف الدكتور احمد شوقي العقباوي استاذ الطب النفسي بجامعة الازهر أن الامة العربية ومنها مصر مازالت سلوكيات افرادها وعاداتهم تعيش في القرون الاولي ولم تصل بعد للقرن الحادي والعشرين، ومع ذلك هناك قلة ذكية عرفت اصول اللعبة واستطاعت ان تكسب وتصعد فوق الجميع؛ ولذلك اصبح السعي للمكسب دون الاستعداد لدفع المقابل هو الذي يحكم الشخصية المصرية، وهو ما يفسر كل مظاهر الاضطراب في السلوكيات عموما ومنها السلوك الاقتصادي، بينما نجد التعثر يرجع في جزء منه الي التقليد والسعي للمكسب السريع دون النظر للمستقبل البعيد. ويرجع د.العقباوي مشكلتنا الاقتصادية الي عدم لجوئنا للاسلوب العلمي في وضع السياسات والتي مازلنا نتعامل معها بسياسة رد الفعل وليس الفعل، ويضرب مثلا بما قرأناه عن نقل 6 وزارات لمدينة السادس من اكتوبر دون ان نفكر هل الطرق ستستوعب ذلك لمدة 10 سنوات وهل استعددنا لهذه الخطوة سواء بشق الطريق الدائري الثاني او بزيادة المداخل للمدينة او بتوصيل المترو لها. ويوضح د.العقباوي اننا نحتاج لاجهزة اعلام تنويرية توضح لنا المشكلات التي سنواجهها في الفترة الحالية والقادمة، والتي تمثل مرحلة انتقال للاقتصاد الرأسمالي والتي تتسبب في زيادة فقر الفقراء وغني الاغنياء وتآكل الطبقة الوسطي، ويؤكد ان الطب النفسي ليس لديه ادوات لمنع امراض المجتمع ولكنه يستطيع التعامل مع ضحايا هذه الامراض.