أصبحنا جميعا خبراء في قضايا مكافحة الفساد، ونبحث عن أي ضحية جديدة كل يوم لنوجه إليها سهامنا، وتيارات الصحف الحزبية والمستقلة وحتي الحكومية في ملاحقة أي قضية وتضخيمها ونسج الحكايات والروايات عنها وتحول رجال الأعمال في بلادنا إلي مشتبه بهم وكأنهم جميعا لا يسعون إلا إلي سرقة مصر وخرابها! والنتيجة اننا اصبحنا مجتمعاً لا يثق فيه أحد، ولا يؤمن بأن هناك من يعمل من أجل الصالح العام، ولا يصدق ما يقال عن مشروعات أو إنجازات فهو لا يجد أمامه إلا صورا للانحرافات وقصصا مثيرة عن الفساد وأصحابه والأموال التي نبهت أو تم تهريبها للخارج. وهذا الوضع أدي إلي تنامي شعور عام بالاحباط وفقدان للولاء والانتماء ودخول مفاهيم جديدة للمجتمع تجعل من السرقة شطارة ومن الرشوة أتعابا ومن اهمال أداء العمل واجبا..! وزاد من هذه الحالة البائسة في جلد الذات اننا رحنا أيضا نهدم بأيدينا كل إبداع ينمو في هذا الوطن فصرنا نقول ونكرر ان الفن قد انتهي وأن الثقافة اضمحلت وأن جيل العمالقة لم يعد له وجود وأن ريادة مصر قد تلاشت وانتهت واننا باختصار وكما يقولون دولة قد انتهي عمرها الافتراضي أو كاد ينتهي...! وهو أمر مؤلم حقا فصحيح ولا مجال للانكار ان هناك فسادا متزايدا في الدولة وانه فساد قد استشري إلي حد كبير بحيث اصبح يشكل ما يشبه النظام الذي له قواعد وأصول، ولكن الصحيح هو أن في هذا البلد جوانب أخري مضيئة للخير، وأن هناك عقولا مازالت قادرة علي الابداع وأن هناك قدرات وطاقات مصرية اثبتت وتثبت كل يوم تفوقها وعطاءها في الداخل وفي الخارج. وهذه الابداعات المصرية في كل المجالات تحتاج إلي من يلقي عليها الضوء ومن يبرز نجاحاتها وإرادتها، ومن يجعل منها قدوة وعبرة للآخرين، ومن يحولها إلي قوة دافعة للمجتمع تنفض عنه غبار اليأس وتمنحه الأمل المطلوب..! ولا يجب أن نقلل من شأن أنفسنا وقدراتنا، وإسهاماتنا الفكرية والثقافية والفنية والحضارية ففي هذا البلد قمم ونجوم في كل المجالات، وكل واحد منهم وراءه رحلة طويلة من التعب والكفاح والعطاء، وكل واحد منهم ثمرة من ثمرات هذا المجتمع الذي فيه الانسان يجب ان يكون أغلي ما نملك ومصدر الثروة الحقيقية. وفي هذا الوطن ملايين الأسر المصرية التي تستحق تسليط الضوء عليها وهي أسر شريفة تكافح في سبيل الرزق الحلال وأداء رسالتها في تعليم أبنائها وإعدادهم لدخول معترك الحياة، وهي أسر كريمة ترفض وتأبي أن تتنازل عن شموخها وعن كرامتها وأن تقبض مالا حراما أو تسطو علي ما ليس من حقها. وفي هذا البلد الطيب رجالات للخير يقيمون العديد من المشروعات الخيرية والاجتماعية ويقدمون المساعدة للفقراء والمحتاجين والأيتام بعيدا عن الصخب والدعاية لا يريدون في ذلك جزاء ولا شكورا إلا رضاء الخالق عز وجل. وفي بلادنا قصص نجاح مشرفة للعديد من الشباب الذين اقتحموا ميدان العمل بأفكار جديدة وجريئة وصمدوا أمام المتاعب والعراقيل ليثبتوا أن روح التحدي كامنة في نفوس شبابنا وأنهم لا يحتاجون إلا قدراً من التشجيع والاعتراف بهم وبدورهم. والأمثلة كثيرة عن النماذج المضئية في بلادنا التي يجب أن يكون هناك تركيز عليها وابراز لنجاحاتها بدلا من أن تمتليء صحفنا بالحديث عن فضائح أهل الفن والتشهير بهم، وبدلا من أن يكون حديثنا منصباً علي ملايين رجال الأعمال وما يحدث في أفراحهم من بذخ واحتفالات وبدلا من ان نشعل ثورة الحقد الاجتماعي والطبقي في نفوس الفقراء الذي يسمعون عن أرقام فلكية بالملايين بينما هم لا يملكون الملاليم. اننا يجب ان ندرك أن المجتمع من الداخل يغلي، وأن في النفوس نقمة وفي الصدور غلياناً، وفي القلوب أحقاد دفينة وأن استمرار تأجيج هذه المشاعر انما يخلق واقعا يدعو إلي التشاؤم والقلق وينذر بعواقب وخيمة نتيجة لأي حادث عرضي أو إشاعة من نوع ما لتهييج الجماهير ودفعها إلي الخروج إلي الشارع. وليس في هذا دعوة إلي تضليل الجماهير وابراز صورة وردية غير موجودة علي أرض الواقع وانما هي دعوة للموازنة ما بين الخير والشر، ما بين الجوانب السلبية والجوانب الايجابية، وان لا نكتفي فقط بالبحث عن العيوب وإهمال المزايا، وانما يجب ان يكون تعاملنا موضوعيا ومنصفا في كل القضايا والمشاكل فلا يوجد أسهل من الهدم ولا يوجد أصعب من إعادة البناء بدون أساسات وقواعد سليمة.. وما يحدث عندنا الآن هو هدم مستمر بلا أي محاولات لإعادة البناء..!