من التغيرات الجوهرية التي طرأت علي ميزان القوة الاقتصادية في العالم خلال السنوات الأخيرة بدء انتقال الثروة إلي الدول المنتجة للطاقة والمواد الخام.. ومن الأمثلة البارزة علي هذا التحول الدول المصدرة للبترول التي ارتفعت إيراداتها السنوية من البترودولارات من 300 مليار دولار عام 2002 لتصبح 700 مليار دولار عام ،2005 وقد أدي ذلك إلي زيادة فوائض الميزان الحسابي لهذه الدول بنسبة 400% لتصبح 400 مليار دولار "شاملة التحويلات المالية والتجارة في السلع والخدمات" وبالمقابل تدهورت حالة الميزان الحسابي للبلدان المستوردة للبترول وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة وتزايد الاختلالات الاقتصادية العالمية وتراجع معدل النمو في البلدان المستوردة للطاقة. وتقول مجلة "نيوزويك" إنه برغم اتجاه أسعار البترول إلي أن تبقي مرتفعة لسنوات طويلة أخري قادمة فإن اتجاه الدول المصدرة للبترول إلي الاستثمار طويل الأجل والإنفاق لفوائضها البترودولارية يعد أمرا في صالح البلدان المستوردة للبترول. ومن الواضح أن دول الأوبك وروسيا وغيرها من الدول المصدرة للبترول في أفريقيا وأمريكا اللاتينية تنفق الكثير علي شراء السلع الفاخرة ومعدات المصانع الحديثة من بلدان أوروبا خاصة ألمانيا كما تنفق الكثير أيضا علي شراء سندات وأذون الخزانة الأمريكية. ولكن هذه الفوائض البترودولارية لها اَثار مقلقة أيضا.. فالاستهلاك الأمريكي المرتفع يتم تمويله بدرجة كبيرة من مشتريات البنوك المركزية الاَسيوية خاصة اليابان والصين لأوراق الخزانة الأمريكية.. ومنذ عام 2004 أصبح واضحا أن الدول المصدرة للبترول هي التي تحول نسبة متزايدة من عجز الميزان الحسابي الأمريكي.. وهذا معناه أن الولاياتالمتحدة صارت تعتمد حاليا بدرجة أكبر علي التمويل الذي تحصل عليه من أقاليم غير مستقرة نسبيا. وأحيانا يكون من الصعب التنبؤ بسلوكيات بعض الدول التي تحفظ فوائضها من البترودولارات في صناديق خاصة غير معلنة ولكن بلدا مثلا روسيا تصرف بوضوح وعمل علي زيادة احتياطياته من النقد الأجنبي لتصبح 150 مليار دولار معظمها في صورة سندات خزانة أمريكية وهو أمر يعني أن أوراق الخزانة الأمريكية لا تزال هي الصورة المفضلة للاستثمار لدي الدول المصدرة للبترول. ويرجع سر هذا التفضيل إلي أن أوراق الخزانة الأمريكية تعد استثمارا عالي السيولة حيث يمكن بيعها بسرعة كبيرة دون تأثير مهم علي أسعارها.. ولكن انخفاض عائدات أوراق الخزانة الأمريكية يثير اهتمام البعض. وفي تحليل لمؤسسة BIS نشر أخيرا ظهر هناك اتجاه أكبر لتنويع أوعية استثمار البترودولارات في أصول جديدة بخلاف أوراق الخزانة الأمريكية وتشمل الأسهم والسندات وصناديق التحوط والصناديق الخاصة.. وحتي الاَن فإن تحول الاستثمارات البترودولارية عن أوراق الخزانة الأمريكية لا يعني تحولها عن الدولار إلي عملات أخري مثل اليورو أو الاسترليني أو الين أو غيرها. وتقول مجلة "نيوزويك" إن تأثير هذا التحول علي الدولار لا يزال قضية مؤجلة إلي المدي البعيد.. ولكن التأثير الأهم يظهر في مناطق أخري.. وعلي سبيل المثال فإن أسعار الأسهم والعقارات الأمريكية مرتفعة بالمقارنة إلي غيرها من أسهم وعقارات الدول الغربية الأخري ولذلك يحدث تحول للاستثمار في أسهم وعقارات تلك البلدان الرخيصة نسبيا. أضف إلي ذلك أن الأثرياء الجدد من الدول المصدرة للبترول قد تعلموا أساليب الرأسمالية الغربية في عمليات الاندماج والاكتساب بما في ذلك الاكتساب الجبري عند الضرورة وأبرز مثال علي ذلك محاولة شركة دبي للمواني السيطرة علي 6 مواني أمريكية في الأسابيع الأخيرة. والمدهش أن قادة الدول الغربية يردون علي مثل هذه التحركات باتخاذ إجراءات حمائية تسيء إلي حرية التجارة العالمية وتناهض مفاهيم العولمة.. وما يجب أن نفهمه هو أن إدمان العالم للبترول سيعني علي الدوام أن الدول المصدرة له ستكون لها سطوة عالمية سواء كمستثمر أو كمستهلك بالمقارنة إلي غيرها من الأسواق الناشئة. وكلنا يعرف أن الاتجاه بعيد المدي إلي نقص إمدادات البترول يدفع دولا مثل الصين والهند إلي إبرام تعاقدات طويلة الأجل لضمان ما يحتاجه ازدهارها الاقتصادي من طاقة.. وهي تشتري الطاقة من أي مصدر حتي لو كان هو إيران التي تدخل مع الغرب حاليا في اختبار قوة بسبب برنامجها النووي. وخلاصة القول إن علي العالم أن يقلل من اعتماده علي البترول وأن يبحث عن موارد بديلة للطاقة بدلا من الانقضاض علي قيم العولمة وحرية التجارة كلما لاح في الأفق احتمال خطر بسيط يهدد المصالح الوطنية لهذه الدولة أو تلك خاصة دول الغرب وفي مقدمتها الولاياتالمتحدة.