عادة ما يُنظر إلى الحياة الملكية على أنها حلم مرسوم على صفحات من ذهب، من خلال قصور شاهقة تعانق السماء، وألقاب تتلألأ كالنجوم، واحتفالات ملكية تفيض بالبذخ والفخامة. ومع كل ظهور إعلامى يُزرع فى النفوس الإعجاب والاحترام، ليبدو أن هؤلاء الأفراد يعيشون فى عالم ساحر، يفوق قدرة البشر العاديين على الفهم. لكن وراء الستائر المخملية، والجدران المزخرفة، تختبئ حياة مليئة بالقيود والضغوط؛ فكل تصرف يخضع للمراقبة، وكل قرار يحمل تبعات وطنية، وكل خطأ صغير قد يشعل فضيحة تهز أركان المؤسسة الملكية بأكملها، ما يضطر كثير من الملوك والأمراء للتخلى عن ألقابهم وسلطاتهم، أو يتعرضون للتجريد منها بين ليلة وضحاها. (باكنجهام) يجرد «أندرو» من الألقاب أحدث الأمثلة على الواقع الملكى المرير، هو ما أعلنه قصر (باكنجهام) مؤخرًا حول تجريد الأمير «أندرو» من جميع ألقابه.
فبعد سنوات من الجدل المثار حول العائلة المالكة البريطانية، أصدر الملك «تشارلز الثالث» مرسومًا ملكيًا رسميًا فى 3 نوفمبر الجارى، يقضى بتجريد شقيقه «أندرو ماونتباتن وندسور» من جميع ألقابه الملكية والتشريفية، ومنعه من استخدام الألقاب المرتبطة بالبيت الملكى البريطانى. ونُشر القرار فى جريدة «The Gazette» - السجل العام الرسمى للمملكة المتحدة- التى أكدت أن «أندرو» لن يكون -بعد الآن- مستحقًا لحمل أو التمتع بلقب، أو صفة، أو امتيازات (صاحب السمو الملكى) أو (الأمير). جاء ذلك، بعد شهور طويلة من تسليط الضوء على علاقة «أندرو» برجل الأعمال الأمريكى الراحل «جيفرى إبستاين»، المتهم والمدان فى قضايا استغلال جنسى لقاصرات. ورغم إنكار «أندرو» كل الاتهامات الموجهة إليه، أوضح القصر الملكى البريطانى أن القرار جاء لحماية سمعة المؤسسة الملكية، وللتأكيد على تضامن الملك والملكة مع الضحايا؛ مضيفًا أن مثل هذه الإجراءات ضرورية، من أجل ضمان بقاء العائلة المالكة فوق أى شبهات أخلاقية أو قانونية. وبموجب هذا القرار، فقد «أندرو» جميع ألقابه ومكانته داخل العائلة المالكة، حيث جُرد من لقب (Earl of Inverness)، أو (كونت إنفيرنس)، وهو لقب نبيل يرتبط بمدينة «إنفيرنس» فى شمال «إسكتلندا»؛ وأيضًا لقب (Baron Killyleagh)، أو (بارون كيليلياج)، وهو لقب فخرى تقليدى يُمنح لأفراد العائلة المالكة للدلالة على مكانتهم الاجتماعية.
كما أُسقط عنه وسام (Order of the Garter)، أو (الرباط)، وهو أرفع وسام شرفى فى «المملكة المتحدة» يُمنح -عادة- لأفراد العائلة، أو الشخصيات البارزة؛ بالإضافة إلى وسام (Knight Grand Cross of the Royal Victorian Order)، أو (فارس الصليب الأكبر للنظام الفيكتورى)، الذى يُمنح تكريمًا للخدمة المخلصة للملك. كما أعلن القصر الملكى البريطانى انتهاء عقد إقامته فى قصر «رويال لودج»، وضرورة انتقاله إلى سكن خاص آخر، ما يعنى خروجه الكامل من أى دور رسمى، أو رمزى داخل العائلة المالكة. الملك إدوارد الثامن أشهر الحالات المماثلة فى تاريخ بريطانيا، كانت تنازل الملك «إدوارد الثامن» عن العرش فى 1936، بعد أقل من عام على توليه الحكم، رغبةً فى الزواج من الأمريكية المطلقة مرتين «واليس سيمبسون»، وهو زواج رفضته الحكومة البريطانية والكنيسة. وبعد تنازله، مُنح لقب (دوق وندسور)، لكنه فقد مكانته كملك، ولم يعد يتمتع بأى دور رسمى فى شؤون الدولة، لتُسجل هذه الواقعة كأول تنازل طوعى عن العرش فى التاريخ البريطانى الحديث.
الأمير هارى وزوجته ميجان ميركل وفى العصر الحديث، يكاد يكون التاريخ يعيد نفسه بصورة شبيهة، إذ شهدت العائلة المالكة انسحاب الأمير «هارى» –إبن «تشارلز الثالث»- وزوجته الممثلة الأمريكية «ميجان ميركل» من مهامهما الرسمية عام 2020. ورغم عدم تجريدهما قانونيًا من ألقابهما كدوق ودوقة «ساسكس»، فإنهما لم يعودا يحملان لقب (صاحب وصاحبة السمو الملكى) فى الحياة العامة، وتوقفا عن تلقى التمويل الملكى؛ فضلًا عن توقف «هارى» عن واجباته لجميع التعيينات العسكرية البريطانية. وجاء القرار بعد خلافات داخل العائلة ومضايقات إعلامية حادة، ليصبح «هارى» أول أمير بريطانى يتخلى طوعًا عن واجباته الملكية فى العصر الحديث. وبعيدًا عن التاج البريطانى، شهدت الممالك حول العالم قضايا تنازل أو تجريد مماثلة.. إسبانيا.. الملك خوان كارلوس الأول ففى «إسبانيا»، جاء تنازل الملك «خوان كارلوس الأول» عن العرش لصالح ابنه «فيليب السادس» عام 2014 فى سياق مختلف تمامًا. فرغم أن «خوان كارلوس» -الذى حكم منذ عام 1975 بعد وفاة «فرانكو»- كان شخصية محورية فى التحول الديمقراطى لإسبانيا، واحتُفل به عالميًا لدوره فى الانتقال السلمى؛ إلا أن سنوات حكمه الأخيرة، اتسمت بسلسلة من الفضائح المالية والشخصية، التى هزت صورته وصورة العائلة المالكة.
ومن أبرز القضايا التى أثارت جدلًا واسعًا فى «إسبانيا» رحلة صيد الأفيال فى «أفريقيا» التى قام بها الملك، أثناء تعرض بلاده لأزمة اقتصادية خانقة، ما أثار استنكارًا شعبيًا واسعًا، فى ظل ارتفاع معدلات البطالة، وإجراءات التقشف الحكومية.. حيث رأى السكان فى تصرف الملك خروجًا عن الحس العام، لأن الإنفاق على رحلة صيد فاخر بدا بعيدًا عن الواقع الذى يعيشه كثيرون، ما دفع الملك لتقديم اعتذار رسمي عن هذا الخطأ. ذلك بالإضافة إلى تورط أفراد من عائلته فى قضايا فساد مالى. ورأى الملك –حينها- بعد عدد من الفضائح والقضايا التى أثارت الرأى العام، أن التنازل عن العرش لصالح ابنه «فيليب» سيكون الوسيلة الأنسب لإعادة الثقة فى النظام الملكى، وضمان انتقال سلس للسلطة دون تهديد شرعية العائلة. السويد.. الملك كارل جوستاف فى عام 2019، اتخذ ملك «السويد»، «كارل السادس عشر جوستاف» قرارًا تاريخيًا، وغير مسبوق، عندما قرر سحب الألقاب الملكية من 5 من أحفاده، حيث تم إعفاؤهم من حمل لقب (أمير، أو أميرة) رسميًا، رغم أنهم ظلوا جزءًا من العائلة المالكة السويدية من الناحية الاجتماعية. وكان القرار يهدف إلى تقليص الأعباء المالية والرمزية المرتبطة بالحفاظ على الألقاب الملكية لأعضاء الأسرة الذين ليسوا فى خط الخلافة المباشر، أى تقليل الضغط المالى على القصر الملكى. جاء ذلك، بعد واحدة من القضايا التى أثارت الرأى العام، التى تخص النفقات المالية الباهظة للأميرة «صوفى»، زوجة دوق «فارملاند» الأمير «كارل فيليب» ابن الملك، خاصة بعد رصد الإعلام تفاصيل رحلاتها الفاخرة، ونفقات السفر الملكى التى اعتبرت مبالغًا فيها، ما أدى إلى تسليط الضوء على ضرورة وجود الشفافية المالية داخل العائلة المالكة، خاصة فى فترة تعانى فيها «السويد» من أزمات اقتصادية. هولندا..الأمير فريسو منذ ولادته، حمل الأمير «فريسو» ألقاب أمير «أورانج-ناساو»، وأمير «هولندا»، إلا أن قراره بالزواج من «مابل ويس» وهى فتاة من عامة الشعب، دون إذن البرلمان، أدى إلى تجريده من لقب أمير «هولندا» عام 2004، وإبعاده عن خط الخلافة. ورغم فقدانه لمكانته الرسمية، بقى «فريسو» محبوبًا بين العامة، لكنه عاش حياة مختصرة مملوءة بالتحديات، وصولًا إلى نهاية تراجيدية. ففى فبراير 2012، تعرض لحادث تزلج أدى إلى انهيار جليدى، أدخلته فى غيبوبة مع تلف دماغى، ليتوفى الأمير فى أغسطس 2013 عن عمر 44 عامًا، تاركًا قصة مأساوية عن التضحية باللقب الملكى، من أجل الحب والاختيارات الشخصية. اليابان.. الأميرة ماكو فى خطوة غير تقليدية لعالم الملكية اليابانية، تخلت الأميرة «ماكو»، ابنة أخت الإمبراطور اليابانى «ناروهيتو» عن لقبها الملكى بزواجها من حبيبها «كى كومورو»، الذى ليس من أصول ملكية، فى حفل بسيط بمكتب تسجيل فى 26 أكتوبر 2021. فالزواج، الذى أعلن عنه الثنائى عام 2017، تأجل بسبب المعارضة العائلية، والضغط الإعلامى الشديد، إضافةً إلى التزام زوجها «كومورو» بدراسة القانون فى مدينة «نيويورك». وبعد تخليها عن العرش، رفضت «ماكو» الدعم المالى المقدم عادة للنساء الملكيات اللواتى يفقدن مكانتهن، والذى يصل إلى 1.3 مليون دولار؛ مؤكدة أنها عانت من اضطراب ما بعد الصدمة، نتيجة الضغوط الإعلامية المستمرة. وبعد الزواج، انتقلت «ماكو، وزوجها إلى «نيويورك»، حيث عملت فى متحف «متروبوليتان» للفنون؛ بينما اجتاز «كومورو» امتحان المحاماة فى «نيويورك» فى محاولته الثالثة. فى النهاية.. يمكن القول إن كل هذه الأمثلة تكشف الوجه المظلم للملكية، فرغم البذخ، والاحتفالات، والألقاب المبهرة، فإنها تحمل قيودًا غير مرئية، ومسئوليات ضخمة، ومراقبة صارمة، وأحيانًا فضائح تهدد المكانة والشرف؛ ما يوضح أن الحياة الملكية جاذبة من الخارج، لكنها ليست وردية من الداخل.