تشهد دول مجلس التعاون الخليجي نهضة عمرانية تشمل ابراجا ترتفع 600 متر الي عنان السماء وفنادق داخل البحر. وفي مدينة ابوظبي عاصمة دولة الامارات العربية يوجد مستشفي ضخم لعلاج مرض السكر جري افتتاحه عام 2006 وتعالج الآن نحو 6 آلاف مريض لأن نحو 20% من سكان الامارات مصابون بهذا المرض الذي ينتشر ايضا في السعودية حيث نسبة السكان المصابين به 16.7% والبحرين 15.2% والكويت 14.4% وهذا المرض هو أحد سلبيات التحول الاقتصادي الهائل الذي طرأ علي بلدان الخليج في العقود الاخيرة فقبل عام 1961 لم يكن في أبوظبي طريق واحد مرصوف ولكن كل شيء تغير تماما بعد دخولها عصر البترول واستمتاع أهلها بالرخاء الذي نشر بينهم للأسف مرض السكر. وتقول مجلة "الايكونوميست" ان اقتصادات دول الخليج تجاهد من اجل امتصاص ثورة البترودولارات تماما مثلما يمتص جسم مريض السكر الانسولين لكي يسري مع تيار الدم. والخطر الذي يتهدد اقتصادات هذه الدول يشبه الفشل الكلوي الذي يتهدد مريض السكر. فهناك التضخم وضعف القطاعات غير البترولية ونقص قوة العمل الذي يجعلها دائما في حاجة الي العمالة الاجنبية. وتذكر ارقام معهد التمويل الدولي ان دول مجلس التعاون الخليجي الست قد حصلت في عام 2007 علي 381 مليار دولار من صادراتها البترولية الي جانب 26 مليار دولار اخري من صادرات الغاز. اما ارقام مكنزي جلوبال انستيتوت فتقول انه لو استمر سعر برميل البترول عند 100 دولار فان جملة الاحتياطيات البترودولارية لدول مجلس التعاون الخليجي ستصل الي 9 تريليونات دولار عام 2020 وهو رقم هائل خصوصا اذا وضعنا في الاعتبار ان اجمالي الناتج المحلي لهذه الدول مجتمعة لم يتجاوز 800 مليار دولار في عام 2007. وبالطبع فإن دول الخليج لن يمكنها استيعاب كل هذه الثروات. فمعهد التمويل الدولي يري ان دول الخليج اضافت 215 مليار دولار الي احتياطياتها الرسمية من النقد الاجنبي في عام 2007. وهذا المبلغ مقسم بين البنوك المركزية للدول الخليجية الست وصناديق الاستثمار السيادية والحكام الاثرياء. ويذكر معهد التمويل الدولي ان هذه المبالغ اضيفت الي ارصدة سابقة حجمها 1.8 تريليون دولار في حين تقدر مصادر اخري حجم هذه الارصدة السابقة بنحو 2.4 تريليون دولار. ولاشك ان تحول دول الخليج الي قوة مالية امر يثير القلق لدي كثير من الاطراف خصوصا عندما تحاول الصناديق الخليجية ان تستثمر خارج نطاق الودائع المصرفية والسندات الحكومية وشراء الحصص الصغيرة في المشروعات غير المميزة.. ولتهدئة هذا القلق قامت حكومة ابوظبي في مارس الماضي بارسال خطابات لوزراء المالية في مختلف دول العالم تطمئنهم فيها ان دوافع الصناديق الخليجية في اي استثمار خارجي هي دوافع مالية بحتة. ويقول بعض الخبراء ان دول الخليج لم تصدق الثروات التي تهبط عليها بالصدفة نتيجة للارتفاع الجنوني في اسعار البترول خصوصا ان ايراداتها صارت تعوق قدرتها علي الانفاق وهنا تشير مجلة "الايكونوميست" الي ان دول مجلس التعاون الخليجي الست بدأت أخيرا عدة مشروعات داخلية كبيرة تتكلف في مجموعها 1.9 تريليون دولار حسب تقديرات "ميديل ايسترن ايكونوميك دايجست" وذلك بزيادة 43% عن عام سابق.. وهكذا يمكن القول ان دول الخليج بدأت تنفق علي نفسها بسخاء من هذه الثروة غير المتوقعة وعلي سبيل المثال فقد صار في دبي الآن أول فندق في العالم من طراز سبعة نجوم وهو فندق برج العرب الذي يصل اليه العملاء بالهليكوبتر أو سيارات الرولزرويس ويشاهدون البث التليفزيوني علي شاشات بلازما مساحة 42 بوصة وفي حجراتهم ايضا يجدون 13 مخدة للاختيار فيما بينها عند النوم. وتتكرر قصص التعمير الفاخر بصورة أو بأخري لدي الجيران في ابوظبي والسعودية الي جانب بناء المدن الصناعية مثل مدينة الملك عبدالله الاقتصادية التي ستكتمل عام 2016، وسيقام فيها ألفا مصنع ويسكنها مليونان من البشر وهي مدينة شاطئية شمال جدة بنحو 100 كيلومتر علي البحر الاحمر وسيكون فيها منتجعات سياحية طاقتها 22500 غرفة كما ستكون فيها ميناء للحاويات وميناء آخر للحجاج يستوعب 300 الف حاج. ولكن هذه المشروعات الواسعة تعاني الآن من صدمة ارتفاع معدل التضخم الذي بلغ نحو 9% في فبراير الماضي وهو تضخم ناتج عن ارتفاع اسعار الطعام والمواد الخام وانخفاض قيمة الدولار الذي ترتبط به عملات دول مجلس التعاون الخليجي كلها عدا الكويت. وحتي لو كان الدولار مستقرا فإن التضخم كان سيضرب دول الخليج من خلال سعيها الي امتصاص الثروة التي هبطت عليها نتيجة ارتفاع اسعار البترول. واذا كان الاستيراد من الخارج يعني استيراد التضخم ايضا فإن هناك خدمات محلية زاد سعرها مثل ايجارات المساكن التي ارتفعت بنحو 47% خلال العامين الاخيرين في دبي بينما تحاول الحكومة كبح هذه الزيادة خلال العام الحالي بحيث لا تتجاوز 5% فقط. وفي سوق العمل تنتشر البطالة بين سكان البلاد الاصليين في كل دول الخليج وبالذات في بلد كبير مثل السعودية. فالمشروعات الحكومية لن يمكنها توظيف الجميع وشركات القطاع الخاص تفضل الاجانب لأنهم أقل أجرا كما ان أبناء البلد الاصليين لن يقبلوا العمل بأجور متدنية كالاجانب. وطبقا لتقديرات مكنزي فإن السوق الخليجي بحاجة لأن يوفر 280 ألف فرصة عمل سنويا من اجل توظيف الشباب المتخرجين في المدارس والجامعات ورغم جهود الحكومات في هذا الشأن فإن ربع الشباب في سن العمل في كل من السعودية والامارات والبحرين يعانون من البطالة. وهناك حلول كثيرة لهذه المشكلة تبدأ من اعطاء الاولوية للمواطنين في فرص العمل الجديدة لدي الشركات وفرض حصص لايمكن تجاوزها لتشغيل الاجانب ومنها ايضا تنويع مصادر الدخل القومي بانشاء صناعات جديدة ولكن هذه الحلول تحتاج الي وقت ولا تتم بدرجة كافية من النجاح وهذا هو سر الازمة التي تعيشها دول الخليج حاليا رغم الرخاء البترولي.