قديما قال الاقتصادي البريطاني ديفيد ريكاردو في القرن التاسع عشر إنه لا شيء يمكن أن يسهم في رخاء وسعادة أي بلد أكثر من الأرباح.. واليوم تنتعش أرباح الشركات حتي في اقتصاد مثل الاقتصاد الألماني الذي يتميز بالركود كما تتجه الدخول الحقيقية للعمال إما إلي البقاء علي حالها أو حتي الانخفاض علي الرغم من الزيادة الكبيرة في أرباح الشركات.. وهذا يعني بعبارة أخري أن العلاقة القديمة بين الأرباح والرخاء الوطني قد انفصمت. وتقول مجلة "الإيكونوميست" إن هذه الملاحظة ذات وجهين أولهما يقول به كل من ستيفن كينج وجانيت هنري الخبيرين في بنك HSBC وهو أن الشركات لم تعد مقيدة بالظروف والسياسات الاقتصادية السائدة في البلدان التي نشأت فيها.. فالشركات الأوروبية تحقق ما تحققه من أرباح بسبب الانتعاش الاقتصادي العالمي دونما نظر إلي حالة التصلب الاقتصادي السائدة في بلدانها. وفي العامين الأخيرين علي سبيل المثال زادت الأرباح لكل سهم في الشركات الكبري المقيدة في البورصة بنسبة 100% في ألمانيا مقابل 50% في فرنسا، أما في اليابان فكانت نسبة الزيادة 70% وفي الولاياتالمتحدة 35% فقط.. ولم يعد غريبا أن تتفوق بورصات أوروبا واليابان علي البورصات الأمريكية رغم أن معدل النمو في إجمالي الناتج القومي الأمريكي هو المعدل الأكبر. والوجه الثاني والأكثر مدعاة للقلق هو أن نجاح الشركات لم يعد ضمانا للرخاء الاقتصادي أو بالأحري لرخاء العمال في بلدان تلك الشركات.. فالمفترض أن زيادة الأرباح تشجع الشركات علي أن تزيد الاستثمار وتدفع أجورا أعلي وتستخدم عمالا أكثر.. ولكن هذا لا يحدث في الواقع، ففي الدول الصناعية السبع الكبري كان استثمار الشركات ضعيفا خلال السنوات الأخيرة علي الرغم من زيادة معدل الأرباح لكل سهم.. وبعكس فترات التعافي السابقة فإن الشركات لم تقدم علي زيادة التشغيل أو زيادة الأجور كما أن شريحة كبيرة من الزيادة في الدخل القومي لهذه الدول السبع ذهبت إلي أرباح الشركات. ونستطيع القول بأن العولمة هي السبب وراء الانفصام بين أرباح الشركات وبين الرخاء في البلدان المختلفة.. فالشركات صارت أكثر عالمية.. وعلي سبيل المثال، فإن أكبر 40 شركة عالمية تستخدم 55% من قوة عملها في بلدان أجنبية وتحقق 59% من إيراداتها من الأسواق الخارجية.. ويقول باتريك ارتوس كبير الاقتصاديين في بنك الاستثمار الفرنسي IXIS إن 53% فقط من العاملين في شركات مؤشر البورصة الألمانية DAX30 يوجدون في ألمانيا ولا تحصل هذه الشركات من السوق الألماني إلا علي ثلث إيراداتها فقط. وفيما يخص شركات مؤشر البورصة الفرنسية CAC40 فإن 43% فقط من العاملين فيها يعيشون علي أرض فرنسا والباقي في الخارج.. وكما نري فإن أرباح الشركات صارت تعتمد علي عملياتها في الأسواق الخارجية ولم يعد من قبيل المفاجأة إذن أن يقل إسهام هذه الشركات في إنعاش اقتصاداتها المحلية. وباستخدام المقاييس السابقة تري مجلة "الإيكونوميست" أن الشركات الأمريكيةواليابانية هي الأكثر ارتباطا بمجتمعاتها المحلية.. فشركات مؤشر نيكي لا تحصل من خارج اليابان إلا علي 20% فقط من إيراداتها.. كما أن شركات مؤشر S&P500 الأمريكي لا تتجاوز مبيعاتها في الأسواق الخارجية 25% من جملة المبيعات ورغم أن هذه النسبة ترتفع إلي 40% لدي الخمسين شركة الأكبر في هذا المؤشر فإن الحكمة القائلة بأن ما يحقق الخير لجنرال موتورز يحقق الخير لأمريكا حكمة لاتزال صحيحة، خصوصا إذا عرفنا أن ثلث العاملين لدي جنرال موتورز هم فقط الذين يوجدون خارج أمريكا أما الباقي فيعملون علي الأرض الأمريكية. أكثر من ذلك، فإن العولمة قلبت موازين أسواق العمل لصالح الشركات وضد صالح العمال عندما أتاحت للشركات العمل في الأسواق ذات الأيدي العاملة رخيصة التكاليف.. وصارت قدرة الشركات علي نقل مزيد من عملياتها الإنتاجية إلي الخارج بمثابة كابح لمطالبات العمال ونقاباتهم بزيادة الأجور في السوق الوطنية. وهذا دون شك أحد أسباب انخفاض الأجور في ألمانيا رغم الزيادة الكبيرة في أرباح الشركات خلال العامين الأخيرين، وانخفاض الأجور يعني انخفاض الإنفاق المحلي ويعني بالتالي تدني مستوي النمو في إجمالي الناتج المحلي.. ولا شك أن العاملين سوف يستفيدون إذا كانوا ملاك أسهم وهذا أحد أسباب انتعاش أسعار أسهم الشركات. ولكن استمرار الشركات في تحقيق أرباح تفوق معدل النمو في إجمالي الناتج المحلي ومعدل ما يتحقق من رخاء داخلي وارتفاع في مستويات المعيشة سيدفع الكثير من الدول إلي اتخاذ إجراءات مناهضة للعولمة. ونتوقع علي سبيل المثال أن تتعالي الأصوات المطالبة بزيادة الضريبة علي الأرباح أو تقييد الاستثمار في الخارج أو وضع حواجز جمركية أمام الواردات أو جعل الاستغناء عن العمالة مسألة أكثر صعوبة، ومثل هذه السياسات ستكون دون شك ضربات قاتلة لفكرة العولمة لأنها بمثابة عقوبة علي الشركات. وربما كان البديل وضع سياسات أخري من نوع مشاركة العاملين في أرباح الشركات أو خفض أسعار السلع مادام يتم إنتاجها في بلدان عمالتها رخيصة الأجر.. وقد بدأ هذا يحدث بالفعل في السوق الأمريكي. باختصار، فإن معاقبة الشركات قد تدفعها للهجرة كليا خارج الوطن أما دفعها إلي إعطاء نصيب من الأرباح للعاملين بصورة أو أخري وخفض الأسعار فقد تكون هي الحلول الأجدي، لكي تستمر العولمة.