تجيء محاكمة الرئيس العراقي السابق صدام حسين لنفتح ملفا ساخنا. فلأول مرة يقف حاكم عربي امام محكمة في بلده كمتهم في قضايا وجرائم ارتكبها في حق شعبه بعد ان ظل اكثر من 30 سنة يحكم ويتحكم ليس في العراق فقط بل ويرتكب الكثير من الحماقات والحروب التي لعبت دورا كبيرا في التاريخ المعاصر للامة العربية بل وللعالم الاسلامي كله. وقد ابدي البعض دهشته من ان محاكمة صدام حسين بدأت بحادثة الدخيل التي تقع علي بعد حوالي 50 كيلومترا جنوب بغداد حين قام الحاكم العراقي ومساعدوه بقتل 140 شخصا من تلك البلدة في اعقاب محاولة جرت لاغتياله سنة 1982. ومصدر الدهشة ان صدام ارتكب جرائم اكثر بشاعة راح ضحيتها مئات الألوف من العراقيين مثل ابادة سكان مدينة حلابشة الكردية بالنابالم والغاز السام سنة 1988 ومذبحة اقاليم الجنوب سنة 1991 والتي راح ضحيتها عشرات الآلاف (حوالي 300 الف). ثم تجيء محاكمة صدام في ظل احتلال القوات الامريكية لاراضي العراق الامر الذي يطرح الكثير من التساؤلات حول من له الحق في هذه المحاكمة وكيف وعلي أي اساس خاصة وللولايات المتحدةالامريكية رصيد خاص في محاكمة خصومها السياسيين من رؤساء الجمهوريات. وهناك المحاكمة التي تجري حاليا لسلوفدان ميلاسوفيتش رئيس جمهورية الصرب السابق امام المحكمة الجنائية المؤقتة التي شكلها مجلس الامن لمحاكمة القادة اليوغوسلاف المتهمين بارتكاب جرائم ضد الانسان. ولا يناقش احد في ان صدام مثله مثل ميلاسوفيتش قد ارتكب الكثير من الجرائم في حق شعبه وفي حق الشعوب العربية كلها يستحق من اجلها الشنق الف مرة، تماما مثلما ارتكب الرئيس الصربي السابق جرائم عرقية ضد اهالي البوسنة والهرسك وجرائم سياسية في حق المعارضين من بني وطنه. ولقد رأينا من قبل وفي بداية التسعينيات رئيس جمهورية اخر يختطف وبصورة اخري وهو ايمانويل نوريجا رئيس جمهورية بنما حين قامت فرقة امريكية مسلحة باحتلال قصر الرئاسة وقبضت علي رئيس الجمهورية وقامت بترحيله الي الولاياتالمتحدة وحاكمته تحت عدة دعاوي منها الاضرار بالمصالح الامريكية والاتجار بالمخدرات. علما بأن رئيس جمهورية بنما السابق اكد اثناء محاكمته انه كان احد المتعاونين الاساسيين مع وكالة المخابرات المركزية الامريكية (CIA) وانه كان امينا في تنفيذ تعليماتها ولكن المحاكمة اثبتت بعد ذلك انه خرج كثيرا عن الخط خاصة فيما يتعلق بتجارة المخدرات التي احتكرها لحسابه الخاص. لقد تصرفت الولاياتالمتحدة في حالة محاكمة ميلاسوفيتش علي اساس القرار الذي اتخذه مجلس الامن بتشكيل محكمة خاصة في لاهاي للتحقيق في الجرائم التي وقعت في البلقان في العقد الماضي، اما في حالة نوريجا، فلقد قامت السلطات الامريكية بتنفيذ القانون الفريد والغريب الذي اصدرته المحكمة الامريكية العليا بضرورة ضبط واحضار أي شخص في اي من بلدان العالم امام المحاكم الامريكية طالما كان متهما بارتكاب جرائم في حق المصالح الامريكية. اما بالنسبة لصدام حسين وبالرغم من ان امريكا هي التي اسقطته واعتقلته، الا انها فضلت هذه المرة ان يحاكم صدام حسين في العراق ووفقا للقوانين العراقية وهي علي يقين بان قليلين هم الذين سيذرفون الدمع علي حاكم دكتاتوري مستبد. لكن الولاياتالمتحدةالامريكية التي تقيم المحاكم الخاصة لمحاكمة من تسميهم بمجرمي الحرب والذين ارتكبوا جرائم في حق الانسانية ترفض حتي الان التصديق النهائي علي المحكمة الجنائية الدولية التابعة للامم المتحدة والتي بدأت نشاطها بالفعل منذ عامين. والمحكمة الجنائية الدولية منوط بها التحقيق في الجرائم التي ترتكب ضد الانسانية والتي تحال اليها من مجلس الامن او من الجمعية العامة للامم المتحدة وقد تحفظت كل من الولاياتالمتحدة واسرائيل علي عدد من بنود وقوانين المحكمة خاصة تلك التي تنص علي ضرورة مثول المتهمين امام المحكمة الدولية وبغض النظر عن البلدان التي ينتمون اليها. واحتجت الولاياتالمتحدة بان دستورها لا يسمح بمحاكمة اي مواطن امريكي خارج الاراضي الامريكية، فيما تحفظت اسرائيل علي البنود الخاصة بتوصيف بعض الجرائم خاصة تلك التي تتعلق بتغيير الاوضاع الجغرافية والسكانية للاراضي الواقعة تحت الاحتلال ونهب ثرواتها وارتكاب اعمال العنف والقسوة في مواجهة السكان في تلك الاراضي المحتلة. والواقع ان فكرة محاكمة مجرمي الحرب لها تاريخ طويل وممتد وان كان اشهر هذه المحاكمات هو محكمة نورمبرج التي ترأسها القاضي الامريكي روبرت جاكسون سنة 1945 وحاكمت 24 من قيادات المانيا النازية وحكمت بالاعدام علي تسعة منهم كذلك محكمة طوكيو التي حاكمت القيادات العسكرية اليابانية بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية. وفي السنوات الاخيرة جرت محاكمات لاثنين من اكثر القادة الدمويين في العالم وهما الجنرال بنوشيه دكتاتور تشيلي السابق الذي قام بانقلاب عسكري بتخطيط من وكالة المخابرات الامريكية اطاح فيها بالحكم الشرعي المنتخب وكان ضحايا الانقلاب يقدرون بحوالي 250 الف مواطن ما بين قتيل ومفقود، اما الثاني فهو الجنرال سوهارتو الذي قام هو الاخر بانقلاب عسكري دموي وبمساعدة وكالة المخابرات الامريكية ضد الرئيس سوكارنو وراح ضحيته حوالي مليون اندونيسي. وتتواكب محاكمة صدام حسين مع ظروف خاصة وغير عادية تمر بالعالم العربي كله منها انتحار وزير الخارجية السوري بعد استجوابه امام اللجنة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال رفيق الحريري رئيس الوزراء السابق ثم صدور تقرير اللجنة الذي يدين بوضوح الاجهزة الامنية في سوريا ولبنان.