رغم عمق وقدم علاقتي بالثورة الجزائرية منذ مشاركتي في نهاية الخمسينيات في المظاهرات الطلابية دفاعا عن جميلة بوحريد وعروبة الجزائر والتي توجتها برسالة الماجستير عن صحيفة المجاهد صوت الثورة الجزائرية حيث قمت بزيارة ميدانية للولايات الجزائرية والتقيت بالمجاهدين وجمعت وثائق الثورة وقد تحقق ذلك بناء علي الدعوة التي تلقيتها من الرئيس الراحل هواري بومدين، وقد تكررت زياراتي للجزائر للمشاركة في مناقشة رسائل الدكتوراة لبعض طلابي الجزائريين ولكن ظل الغرب الجزائري حلما يداعب خيالي خصوصا وأنني لاحظت أن هذا الجزء المهم من الوطن الجزائري لم يأخذ حقه في الكتابات التي أعدها الباحثون الجزائريون والعرب عن الثورة الجزائرية ولذلك لم أتردد في قبول الدعوة التي تلقيتها من الملتقي الدولي عن تلمسان ودورها في الحركة الوطنية الجزائرية الذي نظمه المركز الوطني للبحوث في عصور ما قبل التاريخ - علم الإنسان والتاريخ في إطار الاحتفال بتلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية عام 2011. علي مدي ثلاثة أيام ظللنا أنا والصديقة د. أماني الطويل في حالة سفر جوا وبرا من القاهرة إلي وهران ثم تلمسان استقبلونا بحفاوة شديدة تحدثت عن ذكريات جيلي مع الثورة الجزائرية وصحيفة المجاهد ولقاءاتي مع الرئيس بومدين وتحدثت أماني الطويل عن ثورة 25 يناير المصرية. بلسان فرنسي لقد نجح الملتقي في إلقاء الضوء علي التاريخ الثوري لأهالي تلمسان من خلال الأوراق البحثية والشهادات الواقعية التي أدلي بها المجاهدون الذين شاركوا في أحداث الثورة وأولئك الذين عاصروها، وقد ألقي معظم المتحدثين كلماتهم باللغة الفرنسية وقليل منهم باللغة العربية ولما تساءلنا عن السبب رغم استشهاد مليون ونصف المليون جزائري من أجل استعادة اللسان العربي ورغم مرور 48 عاما علي استقلال الجزائر، أوضح لنا الرفاق أن جميع المتحدثين ينتمون إلي جيل ثورة التحرير ولم يتح لهم تعلم اللغة العربية ولكن الأجيال التي أتت بعد نجاح الثورة كانوا يتحدثون العربية لأنهم تعلموها في إطار برامج التعريب التي أرستها الثورة الجزائرية. استمعنا إلي شهادات تاريخية عن أبطال تلمسان من الرجال والنساء الذين لم تشر لهم الدراسات التي أجريت عن الثورة الجزائرية أمثال العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة والشهيد عبدالرحيم الذي قاد الإضراب العام في تلمسان عام 1956 وألقت السيدة وسية عوالي شهادة مؤثرة عن مشاركة النساء في الثورة ولاحظت دموع بعض النساء اللوائي عاصرن الشهيدات عويشة سليمان وخديجة بريكسي ومليكة حجاج ورشيدة مري، وأشارت وسية إلي أن هناك مئات بل آلاف النساء الجزائريات اللواتي شاركن واستشهد معظمهن ولكن لم يأخذن حقهن من التسجيل والتوثيق وهذا لن يتحقق إلا من خلال الشهادات التاريخية للذين عاصروا الثورة أو شاركوا في أحداثها، هذا وقد أكد بعض المشاركين علي الدور النسائي في الثورة الجزائرية في وهران وقسطنطينية والعاصمة وتلمسان سواء في التنظيم أو النشاط الحركي. ويعلق أحد الشباب الباحثين بجامعة تلمسان وينتمي إلي مدينة مغنية الحدودية «موطن بن بللا» يقول إن تاريخ المجاهدين الجزائريين في القري والمداشر لم يسجل بعد ولم تتح لهم الفرصة للإدلاء بشهادات الأحياء منهم خصوصا قبائل بني سنوسي وأولاد نهار.. وقد شهدت هذه المنطقة الصراع بين جماعة تلمسان بقيادة حسين آية أحمد وجماعة وجرة بقيادة بن بللا، وقد عثر علي مقابر جماعية في المغارات والكهوف أذكر منها مغارة في سيدي مجاهد التي تضم جثث مجاهدين رفضوا الاستسلام. الرواية الشعبية ومن أبرز البحوث التي ألقيت كانت عن الرواية الشعبية لثورة التحرير الجزائرية من خلال أغاني النساء بمنطقة عين غرابة بولاية تلمسان وقد ضمت الحكايات وأغاني الأعراس وأغاني المواسم الدينية وأغاني هدهدة الأطفال والتي اعتبرها الباحث بلقاسم بومدين «الذاكرة الحية القادرة علي حفظ الموروث الشعبي لأي مجتمع مهما تباينت الأزمنة والأمكنة» وقد دونها الباحث في أبيات منفصلة يؤرخ كل واحد منها لحادثة وقعت أثناء الحرب في عين غرابة جنوبتلمسان وهي من نظم نساء المنطقة. كما تحدث الباحث شعيب مجنونيف عن الشعر الشعبي الجزائري عن مجازر مايو 1945 حين قصف الجيش الفرنسي مدينته سفيط بالقطاع الوهراني، وأكد في كلمته أن صور هذه المجازر في الذاكرة الشعبية أكثر نصاعة وحضورا مما دونته أقلام الباحثين والمؤرخين إذ نقلت الذاكرة الشعبية بواقعية متناهية ما تعرض له الشعب الجزائري طيلة شهر مايو 1945 من إبادة جماعية وعدوان همجي بسبب احتفاله بانتهاء الحرب العالمية الثانية بهزيمة ألمانيا وانتصار الحلفاء ومطالبا بالحرية والاستقلال وقد قوبل الشعب الجزائري بحرب وحشية من جانب فرنسا لن تمحي أبدا من الذاكرة الجزائرية. ذاكرة التاريخ ثم تحدث أحد الباحثين عن المشهد الجزائري طيلة العقود التي تلت الاحتلال الفرنسي عام 1830 والتي اتسمت بالقمع والاضطهاد وسياسة الإبادة المادية والمعنوية للإنسان الجزائري، وجاءت الهجرة الجزائرية باتجاه المشرق العربي ردا علي المظالم الاستعمارية ورفضا للتجنيد الإجباري. وقد استندت هذه الدراسة إلي بعض الوثائق الأرشيفية الفرنسية إحياء للذكري المئوي لهجرة أهل تلمسان عام 1911 وبهذه المناسبة يثير الباحثون الجزائريون قضية الأرشيف الجزائري عن الثورة الجزائرية خصوصا وأن الأرشيف الفرنسي الذي أصبح متاحا الآن يعكس وجهة نظر المستعمر الفرنسي ويرون أن هناك حاجة ملحة للتعرف علي الأرشيف الجزائري الذي يعد جزءا من الذاكرة الوطنية والكفيل بتأسيس قيم الانتماء الوطني لدي الأجيال الجديدة من الشباب الجزائري لأن صناعة المستقبل لا تتحقق إلا بمعرفة التاريخ الوطني بكل أبعاده وإشكالياته وتضحيات أبنائه، والواقع أن هناك محاولة جادة لتأسيس الأرشيف الجزائري الذي سيضم إسهامات جميع الولاياتالجزائرية في الثورة وقد انطلقت من هذا الملتقي دعوة لجمع شهادات ووثائق الثورة ويؤكد معظم المشاركين من الحضور الذي ضم أطيافا مختلفة من بقايا الأجيال التي عاصرت الثورة والأجيال التالية من الشباب الجزائري علي أن الاعتماد فقط علي الوثائق والمخطوطات لا يكفي في توثيق وكتابة التاريخ الوطني وهذا يثير قضية أخري خاصة بالوثائق الوطنية التي لم يفرج عنها حتي اليوم أو التي ضاعت واندثرت أثناء الأحداث ومن هنا تأتي الأهمية الاستثنائية للشهادات الواقعية ودورها في كتابة تاريخ الثورات وهذه مهمة المثقفين الوطنيين من المؤرخين والباحثين، ولا شك أن الشهادات التي سمعناها تمثل قاعدة معرفية وبداية مهمة لإعادة كتابة تاريخ الثورة الجزائرية. كان أغلب المتحدثين من المعاصرين للثورة الجزائرية ولذلك لم يتح لنا أن نسمع رأي الشباب الجزائري وما الحصيلة المعرفية التي حصلوا عليها عن ثورة الأجداد؟ كان يتصدر واجهة المنصة صور الشهداء من ولاية تلمسان وجميعهم من شباب الخمسينيات في القرن العشرين. وعلي هامش الملتقي ورث المعرض المعنون «صورة تلمسان في الأرشيف الفرنسي» وهو ملئ بالخرائط والصور التي تسجل جوانب الحياة والتراث المعماري لمدينة تلمسان خصوصا المساجد والحمام الكبير وقبر لالاستي والمدرسة الخلدونية، ويقول الأرشيف الفرنسي «إن التغييرات التي طرأت علي كثير من المدن القديمة وأدت إلي اندثار معالمها العمرانية لم تنج منها تلمسان ولم يحدث ذلك التغيير فقط خلال فترة الاستعمار الفرنسي بل إن الفترة العثمانية شهدت تغييرات عمرانية في القاهرة واسطنبول وبيروت ودمشق». وفي طريق العودة رافقتني الدكتورة لويزة جلال التي انخرطت معي في حديث طويل عن أسباب إصرار فرنسا علي عدم الاعتذار عن جرائمها في حق الشعب الجزائري قالت «ليت الأمر يقتصر علي ذلك بل إنهم يكادون يطالبوننا نحن بالاعتذار لهم لأننا قمنا بالثورة المسلحة ضدهم وأنكرنا أفضالهم وعطاءهم الحضاري لنا، علقت علي حديثها والدهشة تملؤني «هذا هو الوجه الحقيقي لفرنسا الاستعمارية».