لم يكن «إبراهيم أصلان» مجرد روائي أو مثقف كبير بل كان عنوانا للشخصية المصرية المحبة للحياة وللآخرين، الباحثة عن الجوهر الإنساني، كان - بحق - أنشودة متفردة للصدق، في واقع يملؤه الادعاء، وأيقونة للصفاء، في مواجهة الزيف والأكاذيب. إذا جلست إليه تأخذك ابتسامته البسيطة إلي عالم من السحر والنقاء، وإذا استمعت إلي حديثه امتلكك بسحر الحكاية وصوفيتها، طائفا بك في أرجاء المعرفة التي تلمس عصب الأشياء وتكشف عن مكنون اللحظة، في حديث يمتزج بالفلسفة والواقعية في آن. لم يكتب «إبراهيم أصلان» كثيرا، لأنه كان يعيش الكتابة متوحدا مع المعرفة النابعة من الجذور المصرية، فجاءت قصصه أشبه بالأيقونات، وأقرب إلي القراءة الروحية لبشر عاديين يعيشون بيننا، كان يؤمن بنظرية «الكّيف» لا «الكم»، لذا جاء خطابه السردي مكثفا ودالا فمنذ مجموعته الأولي «يوسف والرداء» والتي صدرت في نهاية الستينيات من القرن الماضي حقق «أصلان» المعادلة الصعبة أن يلمس العصب العاري للأشياء بشفافية الرؤية ليعبر عصا يدور في المجتمع بلغة مقتصدة أقرب ما تكون إلي الشعر، وأبعد ما تكون عن الثرثرة وفضفضة الحكي، فكان أقرب أبناء جيله إلي كل الأجيال التالية له. هل لي أن أشبهه بقطعة المسك التي رغم صغرها تملأ المكان برائحة زكية، كان باستطاعته - رغم أنه من أشد المخلصين للكتابة - أن يكتب عشرات المجموعات القصصية والروائية - إلا أنه آثر أن يكتب ما يمكن أن يسمي ب «خلاصة الكتابة» فقطّرها تقطيرا فجاءت أعماله «بحيرة المساء» و«وردية ليل» و«عصافير النيل» و«مالك الحزين» و«حجرتان وصالة» لتضعه في قمة كتاب السرد في العالم العربي، بما امتلكه من صياغة متفردة تنحاز إلي الحداثة والتجريب عن وعي بدور الكاتب في المجتمع الذي يعيش فيه. وعلي ما أعتقد فإن كتابة «أصلان» تميزت بعدة ركائز أساسية.. أولها: انحيازه لجماليات المشهد القصصي. وثانيها: تركيزه علي الشخصية أكثر من تركيزه علي الحدث بما يستلزمه ذلك من قراءة نفسية للشخصية التي يكتب عنها وهذا ما نراه بشكل جلي في مجموعته الرائعة «حكايات من فضل الله عثمان». وثالثها: أنه يكتب عن التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفت إليها أحد - ولعل ذلك الجانب هو أهم ما يميز كتابة «أصلان» وجعله مختلفا عن أبناء جيله، ولا أبالغ في القول إذا قلت بأن شعراء قصيدة النثر في مصر قد استفادوا من أعماله، في تعميق تجربتهم في هذا الجانب الذي يعد «أصلان» رائدا له في الكتابة المصرية الحديثة. ورابعها: معايشته لما يكتب فمعظم الشخصيات التي كتب عنها رآها رؤي العين وعايشها والتحم بها وهذا ما نراه في روايته الفذة «وردية ليل»، والتي تظهر لنا فيها الشخصية الحقيقة له حين كان يعمل موظفا للتليغراف، يقوم بتوزيع الرسائل التي تصل إليه. وخامسها: اعتماده علي فكرة «المتتالية القصصية» حتي في أعماله الروائية وهذا ما يظهر لنا في روايتيه «مالك الحزين» و«عصافير النيل». وسادسها: المشهدية، حين يركز ويكثف الحدث الروائي في مشاهد رمزية، كما نري في «وردية ليل» علي سبيل المثال، من خلال مشاهد بسيطة ومنها مشهد: حين يسلم لسيدة تليغراف تنتظره منذ سنوات فتقع عملة فضية صغيرة تريد أن تعطيها له، فتظل تتأرجح علي السلم ويسمع صوتها - الذي تحس وأنت تقرأ المشهد - بالزمن وكثافته وطوله والفجوة التي يصنعها الانتظار. وسابعها: لغة المفارقة، فلا يترك «أصلان» قارئه إلا إذا وضعه في إطار من الدهشة، وكسر التوقع. وثامنها: أنه يكتب عن أشياء عادية جدا، خارجة عن سلطة الكتابة التقليدية، فهو يتجنب دائما الكتابة عن «المتخيل» أو «ما وراء واقعي»، أو الكتابة عن التاريخ، لم يكن مغرما بذلك أبدا. وتاسعها: أنه يكتب عما يعرف، مكانا كان أو إنسانا، لم يغادر المكان الذي كتب عنه وهو «منطقة إمبابة» سوي في السنوات الأخيرة، لكنه ظل مشغولا به حتي في قصصه الأخيرة. وعاشرها: أنه من الكتاب القلائل الذين أخلصوا للكتابة السردية، حتي بعد أن اختير لكتابة مقال أسبوعي في الأهرام لم يكتب فيه إلا قصصا قصيرة في معظم الأحوال، حتي كتابه الوحيد خارج السرد القصصي والروائي وهو «خلوة الغلبان» والذي كتبه عن بعض الشخصيات الأدبية والثقافية التي قابلها في حياته اتسم بلغة استفادت من لغة السرد كثيرا، فهو أشبه بالقصص القصيرة.. ولعل آخر ما يميز كتابة أصلان طابعها السلس البسيط السهل فتبدو للقارئ - للوهلة الأولي - بأنها كتابة عادية وهذا سر جمالها. إبراهيم أصلان - أيها الجميل الرائع - وداعا.