كانت آخر مقالاته بالأهرام اليومي بعنوان «الشقة مجاورة للأخري» والتي تحدث فيها عما وصفه بالمعركة العظمي وهو العزال من شقة لأخري بنفس المنطقة التي يعيش بها - المقطم - كاتبنا الكبير المبدع إبراهيم أصلان الذي انتهي أجله يوم عيد الميلاد المجيد، اليوم الذي يحتفل فيه قطاع كبير من المصريين والعالم بعيدهم المجيد ويتبادل المسلمون والأقباط التهاني وسط هذا الاحتفال يسجل التاريخ لحظة الوفاة لأهم قاص وروائي عرفه العالم العربي رغم إنتاجه الأدبي القليل، ليتوفاه الله علي سريره بمنزله الذي انتقل إليه منذ أيام قليلة وبعد خروجه من مستشقي قصر العيني الفرنساوي وبدا في صحة أفضل، لكن جاء خبر الوفاة مفزعاً للوسط الثقافي الذي هرع لمنزل أصلان لحظة سماع الخبر فكان أول من تلقي الخبر الروائي سعيد الكفراوي وزوجته السيدة أحلام وهم أبناء الجيل الواحد والأصدقاء المقربون والجيران أيضاً، لتنهار السيدة أحلام وسريعاً تخبر الشاعر والناقد شعبان يوسف الذي لم تتقبل أو تتفهم أذناه وعقله ما سمع فقد كان يتهاتف وأصلان منذ ساعات قلائل، وبدا أنه في صحة جيدة جداً واستعاد نشاطه حتي أنه ذكر يوسف بكتاب «الرؤية الإبداعية» الذي طلبه منه، وبالفعل يوسف قام بتصويره له وكان لا يزال متبقية ثلاث ورقات لم يصورها بعد، فتم تصويرها منفصلة عن الكتاب وأعطاها لهشام أصلان ابنه، لكن أصلان أخبر يوسف بأنه يبدو أنها ضاعت وسط العزال! كذلك اتفقا علي كتاب آخر مهم من أوائل القرن الماضي سيعده يوسف ويقدم له ليخرج ضمن سلسلة مكتبة الأسرة التي كان أصلان قد انتهي من اختيار عناوينها للموسم المقبل.. هل سيخرج هذا الكتاب فعلاً تحت اسم «أصلان»؟ إلي جانب يوسف في بهو عمارة أصلان تواجد الروائي يوسف العقيد والدكتور أحمد مجاهد رئيس الهيئة العامة للكتاب والروائي سعيد الكفراوي والكاتب علي عطا والكاتب زين العابدين خيري وسيد محمود والروائي باسم شرف ووجدي الكومي والشاعر إبراهيم داود والمخرج مجدي أحمد علي الذي أخرج له فيلم «عصافير النيل» المأخوذة عن روايته وحصل علي عدة جوائز بمهرجان القاهرة السينمائي الماضي والناشر محمد هاشم صاحب دار ميريت والروائي أحمد زغلول الشيطي.. الجميع في حالة من الوجوم والحزن العميق، بالكاد استطاعوا الدخول لغرفة أصلان، حيث يرقد ليقبلوه لآخر مرة ويودعوه بدموعهم المنهمرة. الشيطي في محاولة صعبة لتمالك نفسه يقول: أصابني خبر رحيل الروائي الكبير بصدمة كبيرة، فقد علمت بالخبر وأنا في ميدان عابدين أحضر حفل توقيع يجريه ائتلاف الثورة مستمرة ضمن احتفالية الفن ميدان الشهرية.. لم تحملني ساقاي لحظتها لما يمثله إبراهيم أصلان في نفسي منذ بدايتي الأولي في الكتابة.. فقد روج لعمل «ورود سامة لصقر» حين كتبته وأنا في أول العمر، الذي كان لا يزال مخطوطة لشاب آنذاك من الأقاليم.. روج لها واعتبرها أفضل ما قرأه في العام.. رحيل إبراهيم أصلان خسارة فادحة للأدب في مصر والوطن العربي لما يمثله من قيمة أدبية رفيعة.. فأصلان كان حارساً أميناً علي قيم فنية وجمالية تمثل أفضل ما أنتجه جيل الستينيات، والتي ظل يحرسها منذ مجموعته الأولي «بحيرة المساء» وحتي متتاليته الأخيرة «حجرتان وصالة» وانتهاء بعموده اليومي في الأهرام الذي عكس ملمحاً شخصياً يميز عالم إبراهيم أصلان وحده.. الله يرحمه. بالكاد استطعت التحدث إلي الكاتب علي عطا الذي احتبست الدموع بعينيه وتوقف لسانه عن الكلام، فلم يكن قادراً علي التعامل مع الموقف، لكن بمجرد أن قلت له: ماذا تريد أن تقول لعمنا إبراهيم أصلان؟! وجدته يتنبه ذهنه وكأنه يستعرض في ذهنه وأمام عينيه أحداثاً عديدة ومواقف متنوعة وبدأ في الحديث الذي كان أشبه بالهمس لنفسه وبدأت ابتسامة خفيفية ترتسم وقال: «عمنا إبراهيم أصلان.. أنا شخصياً لا أستطيع التحدث عنه باعتباره راحلاً أو متوفي فإبراهيم أصلان بالنسبة لي هو أبي.. فمن الصعب أن أتقبل أنه غاب عنا.. إبراهيم أصلان في السنوات الأخيرة من عمره كنا نتحدث عن صحته المعتلة ومعاناته من أزمة صحية.. لكن أنا شخصياً كنت أراه في كامل عنفوانه كمبدع وكإنسان محب للحياة بشكل غريب واستثنائي، حتي آخر لقاء جمعنا بوعكته الأخيرة بالفرنساوي رأيته في تمام الصحة والعافية يمسك بيد حفيدته ويداعبها ويعطيها الحلويات والشيبسي وفي حالة ذهنية صافية.. أبداً أبداً لم تكن حالة شخص موشك علي الرحيل، فأنا لا أصدق أن أصلان تركنا ورحل بل هو باق بإبداعه الاستثنائي الذي يحظي بتقدير العالم العربي كله.. إبراهيم أصلان كمبدع كان دائماً مجدداً، ودائماً في حالة توقد ذهني.. واشتباكه مع ما يحدث كان استثنائياً حتي اشتباكه مع ثورة 25 يناير كان إبداعيا.. وترك لنا أدباً رفيعاً يقدم أحداثاً صغيرة، لكنه كان يراها بعين المبدع وخلدها عبر أدبه ومقالاته بالأهرام برؤية مبدع ورؤية تختلف في رأيي اختلافاً واضحاً عن تناولات أخري لهذا الحدث الذي غلب عليه الانفعال اللحظي. أصلان باقٍ بأعماله وإنسانيته التي لا حدود لها وأنهي كلمته بالدعاء له بالرحمة وحالة من البكاء. أخواه محسن وحسين أصلان اللذان جلسا في حالة تبدو متماسكة لكنهما لم يستوعبا الموقف بعد، خاصة أخيه الأصغر محسن الذي كان يؤكد أنه تحدث معه عبر الهاتف وكان جيداً جداً كعهده به لكنه فوجئ اليوم بالاتصال من البيت «تعال عشان إبراهيم عايزك».. شعر لحظتها بأن الأمر مريب لتحادثه فيما بعد ابنة أخته وتخبره بحقيقة وفاة عم إبراهيم، وأردف قائلاً: إبراهيم سرقنا.. مش عارف الواحد يقول إيه. يكمل أخيه الأوسط حسين أصلان ويقول: أنا أكثر الإخوة الذين لازموا إبراهيم فكنا في البيت في غرفة واحدة معاً بالكيت كات.. وكنا نصطاد سوياً السمك لنبيعه ونشتري الكتب ونذهب للسينما، أغلب الكتاب زملائه من جيل الستينيات كانوا يزورونه بالمنزل بغرفتنا هذه، وكنت أتركهم علي راحتهم لحين انتهاء زيارتهم.. كبروا مع الأيام وأصبحوا رؤساء تحرير ومشاهير.. لكني غير متذكر الأسماء جيداً. ويكمل حسين قائلاً: منذ كان مراهقاً وكان يريد أن يصبح مشهوراً، وقابل رجلاً عجوزاً نصحه بالقراءة ليصبح كما يريد وكنا نقرأ سوياً، لكن أنا انجذبت أكثر نحو الحياة والعمل.. بدأ إبراهيم بقراءة أرسين لوبين وكتب أخري، كانت قصة كفاح طويلة واشتهر أكثر بعد فيلم الكيت كات المأخوذة عن رواية مالك الحزين، خاصة أنني عاصرت هذه الشخصيات جميعاً. تداخل محسن قائلاً: وقتها أصحاب الشخصيات الحقيقية قابلوا إبراهيم وقالوا له: فضحتنا يا أستاذ إبراهيم.. والناس كانت بتداري روحها مننا!. يضيف حسين: الحمد لله رغم إنتاجه البسيط لكنه استطاع أن يحقق طموحه وقدرته الدولة وأعطته حقه، كان مثله الأعلي نجيب محفوظ.. حتي أن محفوظ نفسه قال: من بعدي في القصة القصيرة إبراهيم أصلان.. «كان قلب كبير وحنين وأب لنا».. وربنا يصبرنا. ويردف حسين قائلاً: بعد ذلك سكنا سوياً بالبيت الكبير وكنا علي تواصل يومي دائم، حتي لو عاد متأخراً كان يمر علي ويدخل نجلس سوياً ثم يصعد لمنزله.. كان يحكي لي كل شيء. فجأة يصمت عم حسين ليتذكر شيئاً مهماً ويقول: هذه الغرفة التي كبرنا فيها كانت بشارع فضل الله عثمان الذي احتل في أعماله مكانة مهمة.. وهو شخصية حقيقية أيضاً.. كان رجلاً نوبياً ويسكن الشارع منذ زمن.. من أشهر كلماته التي كان يقولها لعم حسين في جلساتهم «إحنا بتوع الكلام.. إحنا بنبيع الكلام».. وكنت أجادله في ذلك، أيضاً كان يحب أن يسمع رأيي في أعماله، لأن كان ذوقنا واحداً وقريبين جداً، خاصة أنه كان يكتب عن أسرتنا ومنطقتنا وأصحابنا، لهذا كتاباته وشخصياته غالباً أعرفها، فلقد تحدث عن أبوينا وأسرتنا كلها بعصافير النيل، حتي أنني كنت أعرف الأحداث مسبقاً، وكنا سعداء جداً بها. أما عم محسن فقال: إبراهيم قال لنا قبل كده أنا لو عايز أكون ملياردير حاكتب كتير وأعمل أفلام كتير، لكنه كان يستمتع أكثر بما يفعله ويعشق كتابة الرواية والقصة والقراءة أكثر من أي شيء آخر. وفي حزن عميق وأسي يختم عم حسين حديثه ويقول: كنت الآن وأنا جالس بالداخل علي الكنبة أقول رحل مالك الحزين. بدأ الجميع في الاستئذان وبدأت الكراسي ترفع من بهو العمارة.. الجميع في حالة من الأسي والبكاء يحاول أن يتمالك نفسه ويستوعب ذهاب عمنا إبراهيم أصلان.. وتركناه راقداً علي سريره حتي أمس ليدفن.. فلقد رحل مالك الحزين. «عصافير النيل» تحط في «الكيت كات» لوداع «أصلان» كتب- محمد عبد الخالق في هدوء، رحل عنا الأديب المبدع إبراهيم أصلان، أظنه راضٍ مطمئن، بعدما شاهد بعينيه وشارك بنفسه في ثورة الشعب، التي حلم بها هو وأجيال من المبدعين علي مدي عقود، وتأخرت لدرجة أن بعضهم رحل مؤمناً بأنها لن تأتي. في مثل هدوء رحيله عاش أصلان في هدوء واضح علي موقفه دون ضجة أو مزايدة أو دعاية فجة، رفض بوضوح دعوة مقابلة الرئيس المخلوع مبارك، لإيمانه بأنها ليست اكثر من تحسين صورته علي حساب من سيقابلونه، فرفض الاشتراك في التمثيلية. خفيفا كطيف ودون أن ندري أنه يودعنا، وبعد مرض سريع لم يؤلم به أحد، غادر أصلان للنور، مع ميلاد الأيام الأولي للعام الجديد. ولد إبراهيم أصلان بمحافظة الغربية ونشأ وتربي في القاهرة وتحديدًا في حي إمبابة والكيت كات، وقد ظل لهذين المكانين الحضور الأكبر والطاغي في كل أعمال الكاتب بداية من مجموعته القصصية الأولي «بحيرة المساء» مرورا بعمله وروايته الأشهر «مالك الحزين»، حتي كتابه «حكايات فضل الله عثمان» وروايته «عصافير النيل» وكان يقطن في الكيت كات حتي وقت قريب ثم انتقل للوراق إلي أن استقر حتي وفاته في المقطم. لم ينتظم أصلان في تعليمه منذ الصغر، فقد التحق بالكتاب، ثم تنقل بين عدة مدارس حتي استقر في مدرسة لتعليم فنون السجاد، لكنه تركها إلي الدراسة بمدرسة صناعية. التحق إبراهيم أصلان في بداية حياته بهيئة البريد وعمل لفترة كبوسطجي، ثم في أحد المكاتب المخصصة للبريد وهي التجربة التي ألهمته بمجموعته القصصية «وردية ليل». ربطته علاقة جيدة بالأديب الراحل يحيي حقي ولازمه حتي فترات حياته الأخيرة ونشر الكثير من الأعمال في مجلة «المجلة» التي كان حقي رئيس تحريرها في ذلك الوقت. لاقت أعماله القصصية ترحيباً كبيراً عندما نشرت في أواخر السيتينات وكان أولها مجموعة «بحيرة المساء» وتوالت الأعمال بعد ذلك إلا أنها كانت شديدة الندرة، حتي كانت روايته «مالك الحزين»، وهي أولي رواياته التي أدرجت ضمن أفضل مائة رواية في الأدب العربي حققت له شهرة أكبر بين الجمهور العادي وليس النخبة فقط. عمل رئيساً لتحرير سلسلة مختارات «فصول» من سبتمبر 1987 إلي نهاية 1995، وكذلك رئيساً لتحرير سلسلة «آفاق الكتابة» التي تصدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، وتولي مسئولية الإشراف علي القسم الثقافي بجريدة الحياة اللندنية مكتب القاهرة منذ العام 1992 وحتي وفاته. شارك أصلان مع عدد من الأدباء والفنانين في تأسيس حركة «أدباء وفنانين من أجل التغيير»، وكان من أوائل المثقفين الذين انضموا إلي حركة «كفاية»، وكانت أعمال «أصلان» خالية من السياسة المباشرة، وإنما حملت انعكاسات عديدة لقضايا وهموم المجتمع. حققت رواية «مالك الحزين» نجاحاً ملحوظاً علي المستوي الجماهيري والنخبوي ورفعت اسم أصلان عاليًا بين جمهور لم يكن معتادًا علي اسم صاحب الرواية بسبب ندرة أعماله من جهة وهروبه من الظهور الإعلامي من جهة أخري. المجموعات القصصية بدأ أصلان رحلته الأدبية بمجموعة «بحيرة المساء» القصصية، التي صدرت في أواخر الستينيات، ثم توالت أعماله ومنها: «يوسف والرداء»، و«وردية ليل» التي سجل فيها عمله بالبريد ليلا، و«مالك الحزين»، التي تم تحويلها لفيلم سيمائي بعنوان «الكيت كات»، إخراج داود عبد السيد وبطولة محمود عبد العزيز، وأصبح الفيلم من أبرز علامات السينما المصرية في التسعينيات. و«عصافير النيل»، التي تم تحويلها أيضا إلي فيلم بنفس العنوان إخراج مجدي أحمد علي، وبطولة فتحي عبد الوهاب. بالإضافة إلي عدة مؤلفات منها: «خلوة الغلبان»، و«حكايات من فضل الله عثمان»، و«شيء من هذا القبيل». أزمة (وليمة لأعشاب البحر) والدفاع عن حرية الإبداع. كان إبراهيم أصلان أحد أطراف واحدة من أكبر الأزمات الثقافية التي شهدتها مصر دون أن يرغب في ذلك، وذلك في سنة 2000م حين تم نشر رواية «وليمة لأعشاب البحر» لكاتبها حيدر حيدر وهو روائي سوري، وجاء نشرها في سلسلة «آفاق عربية» التي تصدر عن وزارة الثقافة المصرية، ويرأس تحريرها إبراهيم أصلان. تزعمت صحيفة الشعب التي كانت تصدر عن حزب العمل من خلال مقالات للكاتب محمد عباس حمله علي الرواية حيث اعتبرها الكاتب أنها تمثل تحديًا سافرًا للدين والأخلاق، بل وان هذه الرواية تدعو إلي الكفر والإلحاد، وأثارت في هذه الفترة الجدل العارم وقامت المظاهرات بين طلاب الأزهر علي خلفية استفزازهم بالمقالات التي تتصدي للرواية وترفضها ظنا منهم أنها ضد الدين بالفعل، ولم تقعد الدنيا وتم التحقيق مع إبراهيم أصلان وتضامن معه الكثير من الكتاب والأدباء والمفكرين، غير أن مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر قد أدان الرواية والقائمين علي نشرها في مصر واعتبروها خروجاً عن الآداب العامة وضد المقدسات الدينية. وتم التحقيق مع إبراهيم أصلان بسبب الرواية، إلا أنه لم يتنازل عن موقفه تضامناً مع الحرية، وتضامن معه وقتها الكثير من الكتاب والأدباء والمفكرين. (الجوائز) حصل إبراهيم أصلان علي عدد من الجوائز منها: - جائزة طه حسين من جامعة المنيا عن رواية «مالك الحزين» عام 1989م - جائزة الدولة التقديرية في الآداب عام 2003م – 2004م. - جائزة كفافيس الدولية عام 2005م - جائزة ساويرس في الرواية عن «حكايات من فضل الله عثمان» عام 2006م