لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا في الجزء السابق من مقالته «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا » حكي الدكتور فخري لبيب المناضل الشيوعي عن تجربته مع جيله من انتفاضة 1946 التي انبثقت عنها اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال والتي رفعت شعار الجلاء بالدماء ضد الاحتلال البريطاني.. وعرج علي ثورة يوليو 1952 التي حلت الأحزاب وفرضت الرقابة علي الصحف وأنشأت الحزب الواحد وصولا إلي دمج الدولة في الحزب سواء كان الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني الديمقراطي، وتحول الدولة إلي دولة بوليسية.. وفي هذا الجزء يستكمل د. فخري لبيب كتابة الملحمة البطولية التي شارك فيها. إن النضال من أجل حياة ديمقراطية لم يتوقف أبدا، وكان الثمن باهظا ففي مارس 1954 اشتد هذا النضال، حتي داخل الضباط أنفسهم، ضباط المدرعات، ارتفعت الأصوات تطالب بحكم مدني وعودة الحياة النيابية والدستورية وإقامة حكم ديمقراطي، وإطلاق الحريات وتعدد الأحزاب وحرية الصحافة وإلغاء الأحكام العرفية وتشكيل حكومة جبهة وطنية ومحاكمة المسئولين عما ارتكبوا من أخطاء، ووضع النضال الثورة وتواصلها في مقابل الديمقراطية وممارستها، أي علي الشعب أن يختار بين استمرار الضباط والثورة أو عودة الضباط إلي الثكنات ومجيء الديمقراطية أي العودة إلي زمن الرجعية والاستعمار، حسب رؤيتهم، وقامت المظاهرات واشتعل الموقف واشتهرت تلك الهبة الديمقراطية بهبة مارس، واستجاب مجلس قيادة الثورة للمطالب الشعبية يوم 25 مارس، غير أنه نظم يوم 28 مارس مظاهرة مضادة مستعينا بهيئة التحرير، وكانت الهتافات لا أحزاب، لا برلمان، تسقط الديمقراطية، واستعاد مجلس قيادة الثورة السيطرة، فألغي كل ما سبق من قرارات لصالح الديمقراطية، واتسعت حملات القبض واكتظت السجون بالمناضلين من أجل الديمقراطية، وحياة أفضل اجتماعيا واقتصاديا للشعب المصري. انتفاضة جماهيرية وتسير الحقبة الناصرية بكل إنجازاتها الإيجابية وطنيا واقتصاديا واجتماعيا، والسلبية للغاية ديمقراطيا حتي هزيمة 1967، وتجري محاكمات خاصة بما حدث، غير أن المظاهرات تندلع احتجاجا علي أن الأحكام لم تكن رادعة، انطلق عمال المصانع الحربية ومصانع أخري بحلوان في 21 فبراير 1968، وتصاعدت لتصبح انتفاضة جماهيرية من الطلبة والعمال، في القاهرةوالإسكندرية تطالب بالإفراج عن المعتقلين، ومحاكمة من تسببوا في الهزيمة، وحرية الرأي والصحافة، ومجلس نيابي، وإلغاء القوانين المقيدة للحريات، وإسقاط دولة المباحث، إبعاد الأجهزة الأمنية عن الجامعات، لا علم بلا حرية، واستشهد اثنان من العمال، وأصيب 27 مواطنا، و146 من الشرطة، وقبض علي 635 شخصا. ويجيء الرحيل المفاجئ لجمال عبدالناصر، ويتولي أمرنا أنور السادات وهو واع بالمشكلة الديمقراطية، فيرفعها علما لحكمة، غير أنه سرعان ما يتخلي عن هذا المبدأ الذي لم يكن يؤمن به إطلاقا، وأعلن عن ديمقراطيته ذات الأنياب ومنهجه في فرم الخصوم. وفي يناير 1972، وبعد خطابه عن عدم وضوح الرؤية بالنسبة لمعركة التحرير وطرد العدو الإسرائيلي من أرض سيناء، وبعد أن وضع 99% من أوراق المعركة في يد أمريكا، بدأت المظاهرات في كلية الهندسة جامعة القاهرة، ثم لحقت بها الجامعة كلها، تطالب بالتحرر ودخول الحرب، وعدم الانفراد بالقرار، وضرورة المشاركة الشعبية، كان شعار المظاهرات «اصحي يا مصر»، وكذلك تكررت المظاهرات في يناير 1973 حول المعركة الوطنية. حرب أكتوبر وجاء عام 1973 وكانت حرب أكتوبر المجيدة، التي حطم فيها الجيش المصري أسطورة إسرائيل العسكرية التي لا تقهر، وحقق معجزات قتالية سباقة. ويبدأ عصر الانفتاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي والارتفاع الجنوني للأسعار، وبداية ازدهار الفساد الاقتصادي والانفلات نحو الثراء بكل السبل تحت شعار من لا يثري في زمن السادات فلن يري الثراء أبدا، وأصبح الثراء الفاحش في ذاته هدفا مهما كانت السبل إليه، وتهاوت القيم، وارتفعت رايات الضياع فاللص هو الناصح، والمختلس ذكي والمرتشي والفهلوي والانتهازي وحتي القواد هم أبناء أمناء لهذا الزمان، والشريف أهطل، والعفيف غافل، هؤلاء أبناء عهد ذهب وانقضي. وأمام النضال الديمقراطي شكل السادات عام 1976 منابر ثلاثة من رحم الاتحاد الاشتراكي، لتصبح تلك المنابر في عام 1976 أحزابا ثلاثة، مقيدة أشد التقييد، وجاء قانون الأحزاب ليؤكد الفساد السياسي، ويدفع به خطي واسعة نحو الأمام، فقد منح هذا القانون الوصاية والولاية علي تشكيل الأحزاب بيد خصمها القابع في السلطة، الحزب الوطني الديمقراطي السليل المباشر لتلك الأسرة الكارثية. وفي 18 - 19 يناير 1977، انطلقت المظاهرات علي نطاق مصر كلها في مواجهة تنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي، وكذا من أجل الديمقراطية الحقة، كانت انتفاضة هائلة من أسوان إلي الإسكندرية، وأطلق عليها السادات «انتفاضة الحرامية»، وكانت الشعارات: «عاوزين حكومة حرة، العيشة بقت مرة»، «يا حاكمنا بالمباحث كل الشعب بظلمك حاسس»، «همة لبسوا آخر موضة واحنا كل سبعة في أوضة»، «سيد بيه سيد بيه كيلو اللحمة بقه بجنيه»، «همه بياكلوا حمام وفراخ واحنا الجوع دوخنا وداخ»، وشن السادات حملة قبض واسعة النطاق. وفي 17 سبتمبر 1978 وقع السادات اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، ووقف حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي منفردا في الساحة السياسية يعارض المعاهدة ويهاجمها باعتبار أنها أهدرت النصر العسكري وسحبت مصر من ساحة المعركة ضد إسرائيل وعقدت صلحا منفردا معها، ومرة أخري يشن السادات حملة قبض واسعة النطاق. وتصاعد الصراع ضد السادات الذي بدأ مسيرة النكوص علي كل المكاسب الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، وتعرضت جريدة «الأهالي» للمصادرة، وتعرض أعضاء حزب التجمع للاضطهاد في وظائفهم، وتجاوز عددهم الآلاف دخولا وخروجا من السجون وإليها. اغتيال السادات وفي 17 يونيو 1981 تفجرت الفتنة الطائفية في الزاوية الحمراء، وأشارت كل الأصابع إلي دور النظام فيها، وبدأ الاحتقان الطائفي في التصاعد. وفي 5 سبتمبر 1981 شن حملة مسعورة علي كل القوي المعارضة يمينية ويسارية، دينية إسلامية ومسيحية، وفي 6 أكتوبر 1981 اغتيل السادات، واستكملت مباحث أمن الدولة الحملة المجنونة، وجاء حسني مبارك إلي السلطة وازدادت الأمور السيئة سوءا، وهب العمال في نضالات باسلة جسورة، عمال السكك الحديدية عام 1987، وعمال الحديد والصلب عام 1989، وعمال المحلة الكبري مع مجيء القرن الواحد والعشرين. ويجيء عام 1991 لتبدأ الخصخصة وبيع القطاع العام، ويتفاقم الفساد الاقتصادي ويصاب الحكام وأذنابهم بسعار السلب والنهب، وامتصاص كل خيرات مصر حتي النخاع، لقد عشنا زمن النهب الاستعماري، وها نحن نعيش آثار زمن النهب في الحقبة المباركية وهو أشد وأنكي ويلقي بآلاف العمال إلي الشوارع، وتتفاقم البطالة، وترتفع الأسعار مجنونة، ويقف حزب التجمع ضد الخصخصة وضد البطالة، وقدم ومعه أحزاب أخري حلولا للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، وكان مصيرها العدم. ويجيء عام 1996 ليصدر قانون المالك والمستأجر ويطاح بقانون الإصلاح الزراعي، ويطلق أشباه الإقطاعيين السابقين علي الفلاحين طردا ومطاردة يحميهم جهاز الدولة بكل ثقه. ونسفت تماما كل المكاسب التي حصل الشعب عليها في الحقبة الناصرية، انتهت مجانية التعليم، وانتهت مجانية العلاج، وانتهت كثير من أوجه الدعم، وانتهي دور الدولة في التنمية والتشغيل، انتهت المكاسب الاجتماعية، وعدنا إلي ما قبل 23 يوليو 1952، عدنا إلي زمن الملكية والاستعمار، بل عدنا إلي ما هو أكثر سوءا وبشاعة، وأصاب الناس الإحباط، وفقدان الانتماء والضياع واختلال كل القيم، ولم يعد باقيا من الحقبة الناصرية غير الحزب الواحد وحالة الطوارئ والخوف، وكانت تلك هي أدوات من جاءوا من بعدها في حقبة السادات ومبارك ليسود الفساد والخراب كل مناحي الحياة، ولتضيف حقبة مبارك لذلك لا مبالاة عجيبة، وكأن الشعب لا وجود له، وكأن الحكام يديرون عالما غير العالم الذي نعيش فيه، حتي بدا العصر وكأنه أكذوبة كبيرة، الحكام يتحدثون لغة لا علاقة لها بالناس، والناس تعيش أياما لا تدري ما المخرج منها، ولا من هم هؤلاء الذين يحكمونهم. مقاومة غير معتادة لكن النضال لم يتوقف، ما خضع الشعب المصري أبدا، عاني، قاوم في صمت، في همس أو صرخ، اتخذ أشكالا من المقاومة غير معتادة، لكنه لم يتوقف، توالت الوقفات الاحتجاجية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، قامت بها الجماعات السياسية مثل الأحزاب: التجمع، الوفد، الناصري، الغد، العمل والقوي الاشتراكية، والنقابات وخاصة اتحاد المحامين المصريين، واتحاد المحامين العرب، واتحاد الأطباء المصريين، واتحاد الأطباء العرب، واتحاد الصحفيين المصريين، والعديد من المنظمات غير الحكومية الشريفة دفاعا عن الحريات وحقوق الإنسان وضد التعذيب والاعتقال والمحاكم العسكرية، وضد الهيمنة الأمريكية دفاعا عن القضية الفلسطينية والشعب العراقي ومن أجل حقوق المرأة والطفل، والتنمية المستقلة المستدامة، وهنالك أيضا جماعات أكثر حداثة مثل كفاية و9 مارس و6 أبريل وشباب الجبهة للتغيير والعدالة والحرية، ومصريون من أجل التغيير، وأدباء من أجل التغيير، وفنانون من أجل التغيير وكتاب من أجل التغيير وغيرها، ونضال حقيقي ضد التوريث والتمديد وكل الحقوق الوطنية الديمقراطية، وهنالك جماعات فئوية مثل اتحاد أصحاب المعاشات وأطباء بلا حقوق ومهندسون ضد الحرية ومواطنون ضد الغلاء وغيرها، وهنالك النضال المطلبي المباشر والذي اتخذ شكل إضرابات واعتصامات أمام مجلس الشعب للعاملين في الضرائب العقارية، والتربية والتعليم، وأصحاب العقود المؤقتة.. إلخ، وهنالك الأندية الثقافية والأدبية والتنويرية وبثها للوعي، وللمناهج الفكرية المتقدمة، وكثير منها كان فاعلا ومؤثرا مثل الورشة الإبداعية بالزيتون وساقية الصاوي، كل ذلك كان مقاومة، مقاومة علي مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهو يعني تحديدا أن الشعب المصري لم يكف أبدا عن الرفض والاحتجاج والتحدي، وتتراكم كل تلك النضالات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتي يومنا وراء سد صنعه الحزب الواحد والدولة البوليسية، وسياسة تحدي الشعب والاستهانة به. وتجيء الضربة الأولي لهذا السد، يوم 6 يناير 2011 عندما هب شعب مصر شبابا وشيوخا فتيات ونساء ومسلمون مصريون حقا، وقد ضاقوا بجرائم الفتنة الطائفية زمن مبارك حيث غدت ظاهرة رديئة تهدد الوحدة الوطنية والبلاد، وليقف هؤلاء حول الكنائس يحمونها بأجسامهم ويضيئون ظلام الليل بشموعهم وبوقفتهم وموقفهم الذي كان ردا صاعقا علي أعداء الشعب، هذا يوم سوف يذكره التاريخ بميلاد مصري جديد، الضربة الأولي في صرح التآمر والفساد. انفجار الثورة ويجيء يوم 25 يناير 2011 وتكون الضربة القاصمة، تفجرت الثورة، أطاح شباب مصر بسد الخوف وفقدان الثقة بالذات واللانتماء، واندفع الطوفان الذي تجمع منذ زمان وعبر أزمان، أكمل الأحفاد نضال الأجداد والآباء، وكانوا بحق خير أخلاف لخير أسلاف، كسروا الخوف وكسروا الهزيمة، حرب 1973 كانت نصرا عسكريا، لكن النصر السياسي لم يتحقق، وظلت الهزيمة كامنة حتي جرفتها الثورة الشعبية بقيادة الشباب، وتهاوي النظام، ولكنه لم يسقط بعد، وقيل لكم أنتم الثوار يا شباب وحدكم، والقصد بتركم عن ماضيكم، والماضي والحاضر والمستقبل كل متصل، والنية عزلكم عن باقي الشعب حاميكم الأساسي، اليقظة لازمة وإلا تحولت الثورة إلي أغنية وصورة، لا تستبدلوا الثورة الشارع بثورة التليفاز نيابة عنكم. يوم فجرتم الثورة انهمر الفيضان، وهو في تاريخ مصر، يوم كان، موسم تطهير النيل، النهر يعاني طوال العام من التلوث والأضرار، ويجيء الفيضان هادرا فيدفع بكل تلك المياه الملوثة إلي البحر، ويتجدد ماء النهر ويغدو نقيا عذبا صديقا لكل الكائنات الحية، ويترسب الطمي، يغذي التربة ويجددها فتزداد خصبا وعطاء ونماء، إن البعض يري أن مصر هبة النيل، لكن البعض الآخر يري أن مصر هبة الفيضان. وثورة 25 يناير هي فيضان زماننا، هي التي وهبت مصر لشعبها مرة أخري هي التي استردتها، فغدت مصر هبة شعبها هبة أبنائها، علينا ألا نضيعها مرة أخري، علينا أن نكون بحق الفيضان الذي يطهرها، ويجددها، ويدفع بها قدما نحو الأمام.