ثورة 25 يناير هي فيضان زماننا، هي التي وهبت مصر لشعبها مرة أخري، هي التي استردتها، فغدت مصر هبة شعبها، هبة أبنائها، علينا ألا نضيعها مرة أخري، علينا أن نكون بحق الفيضان الذي يطهرها ويجددها، ويدفع بها قدما نحو الأمام. وكيف جري تخزين مياه هذا الفيضان الهادر هذا ما يقوله لنا د. فخري لبيب.. حلت هذه الأيام الذكري الخامسة والستون لهبة الشعب المصري الثورية في فبراير عام 1946 تحت قيادة اللجنة الوطنية للطلبة والعمال. كان المد الوطني عارما، والنضال الشعبي يتدفق هادرا إثر الحرب العالمية الثانية، وانطلقت الثورة من جامعة فؤاد الأول في 9 فبراير، ثورة وطنية ديمقراطية ضد الاحتلال البريطاني والسراي وعملائهما من أشباه الإقطاعيين والقوي الرجعية والتابعة، وكان الصدام الدامي علي كوبري عباس، فوق النيل، وسقط الشهداء والجرحي، وواصل المد صعوده، وسقطت وزارة النقراشي باشا، ليجئ الملك بوزارة إسماعيل صدقي باشا، وهو الأشد بطشا فيمن كانوا يسمون بالمستقلين، لكن المعارك لم تتوقف داخل الجامعة وخارجها، لقد بدأ الفيضان واندفع حتي جاء يوم الخميس 21 فبراير 1946، وأعلنت اللجنة الوطنية للطلبة والعمال عن أن هذا اليوم سوف يكون يوم الجلاء، ودعت الشعب للتظاهر والتلاقي في ميدان الإسماعيلية، وانطلق الإعصار من مصانع شبرا الخيمة وامبابة والجيزة وحلوان وغمرة، وطلاب جامعة فؤاد الأول وطلاب الأزهر وطلاب المدارس الثانوية، شمل الإعصار مصر كلها، حتي خلت الشوارع من كل شيء إلا المتظاهرين الذين كانوا يعدون بالآلاف. عمال وطلبة وكان القشلاق الإنجليزي، أي المبني الذي تقيم فيه القوات البريطانية المحتلة في القاهرة، يمتد من النيل مباشرة «بلا كورنيش» إلي منتصف الميدان الحالي تقريبا «ميدان التحرير» شاملا ما هو اليوم مبني جامعة الدول العربية وفندق الهيلتون ومقر الحزب الوطني الذي احترق أثناء ثورة 25 يناير، ودارت معركة بين الشعب المصري بعماله وطلابه قواه الشعبية في هذا الميدان، منذ العاشرة صباحا حتي الرابعة عصرا، معركة بين من يمتلكون الرصاص والقتل، ومن لا يمتلكون شيئا غير الإرادة والعزيمة، تحت شعارات: الجلاء بالدماء، عاش كفاح الشعب المصري، عاش الطلبة مع العمال، وهاجمنا القشلاق الإنجليزي، ومقر الطيران الإنجليزي أيضا، والذي يحتل مكانه اليوم مجمع التحرير، وأشعلنا فيهما النيران، والرصاص يحصدنا حصدا، ونحن لا نتراجع بل ننقض بصدور عارية علي معقل القوات البريطانية في مصر، ولم يخرب متجر أو تحرق سيارة، ولم يسلب منزل أو ينهب أي مكان، وسقط ثلاثة وعشرون شهيدا، وأصيب مائة وعشرون جريحا. وعندما وصلت جثث الشهداء إلي ديارها في الأحياء الشعبية خرجت السيدات وقد اتشحن بالسواد وهن يصرخن ويهتفن «ولادنا فدي الوطن.. ولادنا فدي الوطن». وحاولت حكومة إسماعيل صدقي الدس بين الثوار فأصدرت بيانا جاء فيه: أن الطلبة أبرياء، لكن عناصر من الدهماء والرعاع اندست بينهم ، وكانت تقصد العمال بذلك والقوي الشعبية، لكن اللجنة الوطنية للطلبة والعمال تصدت له مستنكرة فعلته مؤكدة وحدة وتضامن كل قوي الشعب وفئاته. ودعت اللجنة إلي يوم للحداد هو يوم 14 مارس 1946، وفي هذا اليوم ساد الصمت الجليل كل شيء، احتجبت الصحف وأغلقت المتاجر والمقاهي وتوقفت وسائل المواصلات في كل أنحاء البلاد، واقتصرت الإذاعة علي تلاوة القرآن الكريم والأناشيد الوطنية، وشارك الأجانب في الحداد بتغطية لافتاتهم الأجنبية، وشارك الموظفون والقضاة ورجال النيابة، وأعلنت وزارة الأوقاف الحداد، وسارت المظاهرات السلمية في هذا اليوم الحزين، لكن الشرطة وعساكر بريطانيا احتكوا بالمتظاهرين، ودارت معارك في الإسكندرية استشهد فيها ثمانية وعشرون مناضلا، وجرح ثلاثمائة واثنان وأربعون، وواجهت بريطانيا العظمي أول هزيمة لها علي أرض مصر، بعد الحرب العالمية الثانية، فاتخذت قرارا بالجلاء عن المدن المصرية الكبري إلي القنال، وكان ذلك انتصارا رائعا للحركة الوطنية بقيادة اللجنة الوطنية للطلبة والعمال. وتواصل الكفاح، وارتفعت شعارات سقوط الملكية وحياة الجمهورية، وفتحت السجون أبوابها لزهرة شباب الحركة الوطنية الديمقراطية. وعاد النقراشي باشا، وتفاقم الصراع. ففي 6 أبريل 1948 قامت مظاهرات في الإسكندرية من الجماهير وجنود بلوكات النظام وهم يحملون الخبز علي أسنة الرماح. وفي 5 أبريل أضرب ضباط البوليس والكونستبلات والجنود واعتصموا في حديقة الأزبكية، وهبت المظاهرات دعما لنضال الشعب الفلسطيني وفي معاداة للصهيونية. واعتصم طلبة كلية طب قصر العيني وقتل سليم زكي باشا حكمدار القاهرة المستبد. وتوالت الإضرابات العمالية في امبابة وشبرا الخيمةوالإسكندرية وغيرها وسقط الشهداء ويجئ عام 1950 ليكتسح الوفد الانتخابات البرلمانية كواحدة من نتائج هذا النظام البطولي في مواجهة حكومات الأقلية، وفي 8 أكتوبر 1951 تلغي حكومة الوفد معاهدة 1936 مع بريطانيا العظمي، وينسحب كل العمال العاملين مع قوات بريطانيا في القنال، وقامت اللجنة العليا للطلبة ولجانها الفرعية بمهمة تدريب المواطنين علي حمل السلاح والتوجه للنضال في القنال وبدأت حرب العصابات. وفي 25 يناير 1952 حاصرت القوات البريطانية، فرق الأمن المصرية في الإسماعيلية وقاوم الضباط والجنود ببسالة، غير أن الجنود البريطانيين ارتكبوا مجزرة شنعاء. سقوط وصعود وفي 26 يناير 1952 خرج جنود بلوكات النظام من ثكنات العباسية بأسلحتهم في السادسة صباحا في مظاهرة صاخبة احتجاجا علي ما أصاب زملاءهم واشتركوا مع الطلبة في مظاهرات حاشدة، وهتفوا بسقوط الملك أمام قصر عابدين. 26 يناير أيضا حريق القاهرة والمؤامرة الكبري، وإقالة حكومة الوفد، وتنصيب علي ماهر رجل السراي رئيسا للوزراء فيشن حملة اعتقالات عارمة علي الفدائيين والمناضلين. وفي الواحدة من صباح 27 يناير تسلل طلبة كلية الشرطة، من الكلية وهم يحملون بنادق ال لي انفيلد إلي حديقة الأزبكية في مظاهرة احتجاج علي ما حدث في الإسماعيلية. 1 مارس سقطت حكومة علي ماهر وجاءت حكومة نجيب الهلالي. 2 يوليو سقطت حكومة نجيب الهلالي وجاءت حكومة حسين سري. 22 يوليو سقطت حكومة حسين سري وجاءت حكومة نجيب الهلالي. 23 يوليو 1952 استولي الضباط الأحرار علي السلطة، وشكلوا وزارة برئاسة علي ماهر باشا رجل السراي. ولنقف هنا قليلا، 23 يوليو لم يجئ فجأة من السماء، ولا نبع من الأرض من لا شيء، 23 يوليو جاء كجزء من حركة ثورية سابقة عليه بسنوات منذ عام 1946، تلك الحركة التي لم تتوقف أبدا عن الكر والفر في صراع تحريري ديمقراطي اختلفت صورة من المنشور إلي التظاهر إلي فوهة البندقية، وهو صراع مهد الأرض تماما للإجهاز علي النظام القائم، فقد جلت القوات الإنجليزية إلي القنال، وانهار حكم الأقليات وخندق السراق، أولا بالنجاح الساحق لحزب الوفد، ولتهاوي عمد النظام الذي شكل أربع وزارات خلال ستة أشهر. 23 يوليو جاء إثر نضال شعبي عارم، سقط فيه العديد من الشهداء، وشحن خلاله الشعب المصري بعداء عميق للاستعمار وعملائه وعلي رأسهم السراي، إذن جاء العسكر بعد نضال مدني بطولي، ولم يأتوا قبله أبدا. الجيش جزء أصيل من قوي الشعب الوطنية، وهو الفصيل المناط به حماية الحدود ورد المعتدين، لكن ضباط يوليو غدوا حينذاك حكاما، ولسنا هنا بصدد مناقشة هذا الآن، لكنني أذكر هذا في السياق العام لأحداث جسام مرت بها مصر، قالوا نحن حماة الدستور لكنهم أسقطوا دستور 1923 في 10 ديسمبر 1952، وشكلوا في 12 يناير 1953 لجنة لوضع دستور علي رأسها علي ماهر رجل السراي، وكانوا قد أصدروا قبل ذلك، في أكتوبر قانونا بعدم اشتغال الطلبة بالسياسة، وفي 15 يناير 1953 أعيدت الرقابة علي الصحف، وفي 17 يناير حلوا الأحزاب. وفتحت السجون والمعتقلات أشداقها، وفي 23 يناير تم تكوين هيئة التحرير تحت شعار كلنا هيئة التحرير. لقد حققت ثورة 23 يوليو 1952 خلال الحقبة الناصرية إنجازات إيجابية علي المسارات الوطنية والاقتصادية والاجتماعية، وهي في غالبيتها كانت مطالب ناضل الشعب من أجلها قبل 23 يوليو، كانت مكاسب حققت آمالا طمح الشعب إليها. لكن الإجراءات في المجال الديمقراطي، أو الركن الرابع لبناء المجتمع، وهو ركن الديمقراطية بداية لكارثة حقيقية، سوف تودي فيما بعد بكل المكاسب التي حققها الشعب. جحر الثعابين كانت هيئة التحرير، أو الحزب الواحد، هي الحزب الذي صنعه النظام لنفسه، وللحق والتاريخ كانت هذه الهيئة هي بداية الفساد السياسي في مصر، كانت جحر الثعابين ومأوي السوس الذي سيجهز علي كل إيجابي تحقق، وكان مصدر هذا الخطأ الفادح، هو عدم اعتراف رجال 23 يوليو بدور النضال المدني الشعبي السابق عليهم، والذي مهد الأرض تماما لهم، بل فعلوا نقيض ذلك، استعانوا بعناصر معادية للشعب كمستشارين ومشرعين، واتخذوا موقفا مضادا من القوي الوطنية الديمقراطية ذات التاريخ النضالي، واعتبروا أنفسهم بداية الوجود الوطني المصري، وليس حلقة في سلسلة نضالية متصلة متواصلة، وتمادوا أكثر من ذلك فاتخذوا لأنفسهم دور الوصي والولي، ووكلوا أنفسهم للفعل والحكم نيابة عنه، وكانت هيئة التحرير مجرد تنظيم شكلي مفرغ من مضمونه الحزبي، مجرد أداة للسلطة الحاكمة، لقد نبع من السلطة كذيل لها، واستمرت تلك الخطيئة تفرز ثقافات وأخلاقيات مدمرة: أهل الثقة أولي من أهل الكفاءة، الديمقراطية بدعة غربية والمطالبون بها عملاء للاستعمار، المخالف في الرأي خائن وعميل، أي لا اعتراف بالآخر وتكفيره سياسيا بل دينيا أيضا، كل الحقوق السياسية للحكام، والسيادة والانفراد بالسلطة، والتزوير لتحقيق ذلك، وبدأ التزوير بحق هذا الحزب الواحد، حزب الحكومة، في أن يعترض علي المرشحين في الانتخابات التشريعية بحيث تحسم الانتخابات قبل بدايتها بحكم القانون، أي تزوير شرعي، كما تعرض قوائم المرشحين للانتخابات النقابية علي الأجهزة الأمنية ليفرزها قبل طرحها للانتخاب، وتدريب أعضاء هذا الحزب الواحد علي كتابة التقارير، والتحول إلي عناصر أمنية، والنفاق العارم وسيلة للصعود والترقي، الرئيس أي رئيس، في أي مستوي، هو كل شيء، مما أدي إلي انتشار وباء الشيزوفرينيا السياسية، الناس تسب في الخفاء وتهلل في العلن، انتفت الإرادة والإبداع، ولم يعد علي الشعب إلا أن يطيع وينفذ أو يتظاهر بالطاعة والتنفيذ، غدا الخوف سلاحا رهيبا في إخضاع الناس. وتتعاظم الخطيئة وتتجذر من هيئة التحرير إلي الاتحاد القومي إلي الاتحاد الاشتراكي إلي التنظيم الطليعي إلي حزب مصر إلي الحزب الوطني الديمقراطي، وهو مثل كل أسلافه الأشاوس، اسما علي غير مسمي، إن هذه الخطيئة هي أساس كل فساد، دمجوا الدولة في الحزب، فتحول البلد إلي عزبة خاصة، ودمجوا الحزب في الدولة، والدولة بوليسية، فتحول الحزب إلي تنظيم بوليسي، سطوة وسلطة وإرهاب وبلطجة.