أظن أن هذا هو الوقت المناسب كي تعيد العسكرية المصرية الاعتبار لواحد من أنبل وأشجع قادتها في التاريخ المعصر، ألا وهو المرحوم الفريق سعد الدين الشاذلي.. الرئيس السابق لأركان الجيش المصري في حرب أكتوبر. ومن المشاهد التي هزت وجداني في ثورة 25 يناير مشهد شباب مصر البررة وهم يؤدون الصلاة في ميدان التحرير علي روح الراحل الكبير.. وكم كانت دهشتي كبيرة لأن كل هؤلاء الشباب لم يعاصروا الفقيد، إلا أن بطولاته وشرفه العسكري الرفيع كانا حاضرين بقوة في هذا المشهد المهيب.. وهو ما يؤكد أن الشعب المصري لا يمكن أن تغمط الأبطال حقهم. أما الجنود والضباط علي الدبابة في ميدان التحرير فقد أخذتهم الدهشة وطفرت الدموع من عيونهم، وهم يطالعون بعيونهم هذا الوفاء العظيم من شباب مصر الغض والمفرح لبطل من أبطال العسكرية المصرية.. أظن أن القوات في ميدان التحرير شعرت وقتذاك بأهمية دورها في حماية الشباب الثائر من جحافل المرتزقة وأفاقي الحزب الحاكم سابقا الذين راكموا الثروات وتمرغوا في الفساد عبر تمجيد وتأليه الرئيس السابق. أعرف جيدأ أن المجلس الأعلي للقوات المسلحة مشغول بعشرات من المشاكل المعقدة، بعد أن وجد نفسه مسئولا عن حماية قوام الدولة والمجتمع المصريين، بسبب ما ألحقه نظام مبارك البائد بمصر من أذي وجمود وفساد. وأعرف أن المؤسسة العسكرية المصرية ذات الوطنية عميقة الجذور، وتاريخها المشرف، تشعر بالضيق مما تسبب فيه جنرالات من عينة مبارك من خراب لمصر.. وجشع وطغيان أسرة تصورت أنها يمكن تنشئ سلالة ملكية علي النيل بعد ستة عقود من النظام الجمهوري. إن ما اقترفه مبارك وبطانته لا يمكن علي الإطلاق أن يلحق الأذي بسمعة الجيش المصري البطل، فجيش مصر ليس كأي جيش.. بسبب تاريخه الوطني العريق، وبسبب تكوينه العضوي من أبناء الشعب من الضباط والمجندين، وبسبب عقيدته القتالية التي تركز علي حماية التراب الوطني والدستور . ورغم أن أبطال حرب أكتوبر كثيرون للغاية، مثل الشهيد عبد المنعم رياض، ومحمد فوزي وأحمد إسماعيل والجمسي وأحمد بدوي ومحمد علي فهمي.. فقد أغرقنا الإعلام الرسمي إلي حد الملل بالحديث المبالغ فيه عن صاحب الضربة الجوية في حرب أكتوبر.. وتمت التعمية علي كل البطولات الأخري لصالح تمجيد الرئيس المخلوع.. فكان من غير المستحب في الإعلام الرسمي الحديث عن القصفة المدفعية أو ملحمة الدفاع الجوي أو بطولات القوات الخاصة والمشاة والمدرعات والمهندسين العسكريين.. الخ . وبالمقابل فإن بطلا مغوارا هو سعد الدين الشاذلي.. أحد قادة ومهندسي معركة أكتوبر، قد ذاق عذاب السجن والمنافي والتطاول والإهانة من أذرع وأبواق النظام ومنافقته.. ولكن ها هو الرجل يلاقي وجه ربه الكريم، والثورة المصرية التي حلم بها تحقق انتصارها علي نظام لم يتورع عن سفح دماء مئات الشباب وتخريب اقتصاد البلاد وإيصال كل أجهزة الدولة المصرية إلي حافة الشلل والانهيار.. لمجرد معاندته ورغبته في البقاء لأيام أطول في سدة الحكم. لقد نشب الخلاف بين الشاذلي والسادات أثناء حرب أكتوبر، لأن رئيس الأركان كان يريد أن يلحق بالمؤسسة العسكرية الإسرائيلية خسائر بشرية بمواجهة تجعلها غير قادرة علي الوقوف علي قدميها لسنوات طوال، بينما كانت استراتيجية السادات هي تحقق مكسب محدود علي الأرض من أجل الانطلاق نحو التفاوض والحلول الوسط ومن ثم تغيير اتجاهات الدولة المصرية الناصرية تغييرا كاملا . ومن هنا كان إدراك الإدارات الأمريكية وإسرائيل لخطورة هذا النوع من الجنرالات، وتم الإيعاز للسادات بعدم التسامح علي الإطلاق مع سعدالدين الشاذلي، وفهم السادات هذا جيدأ واتخذ كل ما يمكن من إجراءات لتشويه ومطاردة البطل، دون أدني اعتبار لتاريخه العسكري والوطني المشرف. وعلي النهج الساداتي نفسه سار مبارك، ولكن كانت لدي مبارك دوافع إضافية، فقد كان مملوء بالغيرة من كل الأبطال الآخرين من قادة القوات المسلحة.. ولم يتورع عن حبس الشاذلي، دون مراعاة لتاريخه أو حتي سنه ومرضه. واليوم.. ها هو مبارك يعيش حالة النفي والعزلة في شرم الشيخ، مصحوبا باستنكار وغصب المصريين، بينما تشغل أسرته وبطانته بالدسائس وتهريب الأموال واستجداء العون الخارجي. أما سعد الشاذلي فقد ودعه الشعب المصري، والمتظاهرون في ميدان التحرير وسائر الميادين المصرية الأخري، بالترحم علي بطل لم ينل ما يستحق من تكريم، بل قاسي من الأذي المتراكم الذي حل به. أدعو المجلس العسكري لأن يشكل لجنة وطنية من العسكريين والمدنيين لتخليد بطلنا العظيم سعد الدين الشاذلي.. ولتكن أولي أعمالها إعادة الاعتبار له، وتسمية دفعة من الكليةالحربية باسمه، ووضع تمثال له في أحد ميادين القاهرة الرئيسية، وأيضا إصدار كتاب عن تاريخه وبطولاته. فهذا أقل ما يمكن أن نتوجه به إلي ذاكرة العطرة.. وهذا أقل ما يمكن عمله أيضا لإلقاء الضوء علي عسكريين مصريين شرفاء.. لم يفسدهم هوي السلطة وبريق المال .