يقطن أوكرانيا حوالي 45 مليون نسمة، يمثل الأوكرانيون النسبة الأكبر(77,8%) والروس (17,3%) الي جانب الرومانيين والمولدافيين والبيلورسيين. تعاقب علي حكم أوكرانيا المعاصرة (ما بعد الحقبة السوفيتية) أربعة رؤساء هم ليونيد كرافتشوك (5 ديسمبر 1991 – 19 يوليو 1994)وليونيد كوتشما(19يوليو1994 – 23 يناير 2005) وفيكتور يوشينكو(23 يناير 2005 – 25 فبراير 2010) وفيكتور يانوكوفتش (25فبراير 2010 – 21 فبراير 2014) .كان السعي لكسب أصوات القوميين الأوكرانيين ومغازلة الغرب السمة المشتركة لجميع المشاركين في الماراثون الرئاسي الأوكراني (ولو بدرجات متفاوتة) طوال ما يزيد على الثلاثين عاما المنصرمة.كما تميز "العامل الروسي" بحضور ملحوظ، خاصة في الانتخابات الرئاسية السابقة التي جرت مطلع عام 2010 وانتهت بفوز رجل روسيا فيكتور يانوكفتش والذي ظل في السلطة الي ان تم عزله من قبل البرلمان الأوكراني في 21 من فبراير الجاري.قد يكون من المفيد ونحن نتحدث عن المشهد الأوكراني المعاصر العودة الي ماجري في الانتخابات الرئاسية قبل الأخيرة (أواخر 2004 وأوائل عام 2005) والي شخصية المتنافسين فيها(فيكتور يوشينكو وفيكتور يانوكوفتش).بدأ فيكتور يوشينكو فترة رئاسته الأولي في 23 يناير 2005 بعد منافسة ضارية مع منافسه فيكتور يانوكوفتش(الذي خاض الانتخابات ممثلا للمعارضة الأوكرانية وفي القلب منها الاشتراكيون والشيوعيون وأنصار روسيا).حصل فيكتور يوشينكو في جولة الاعادة (الثالثة) التي جرت في 26 ديسمبر 2004 علي أصوات 52% من الناخبين (مقابل 44% لمنافسه فيكتور يانوكوفتش) وجري تنصيبه وسط ترحيب غربي وامريكي ملحوظ وبمشاركة الكثير من الزعماء الغربيين وعلي رأسهم وزير الخارجية الأمريكي(حينذاك)كولن باول. كانت الجولة الأولي من الانتخابات الرئاسية الأوكرانية قد جرت في 31 اكتوبر عام 2004 وحصل فيها يوشينكو علي نسبة 39.8% مقابل 39.4% لمنافسه يانوكوفتش .ولما كان القانون الأوكراني يحتم حصول أي من المرشحين علي أكثر من نصف أصوات المشاركين في الانتخابات لاعلان فوزه في الجولة الأولي،جرت الجولة الثانية في 21 نوفمبر 2004 .غير أن المحكمة العليا قررت الغاء نتائجها (نظرا لما شابها من أعمال تزوير لصالح يانوكوفتش )وحددت 26 ديسمبر موعدا لجولة ثالثة بين المتنافسين انتهت بفوز يوشينكو .واجه الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفتش مواجهة شرسة مع منافسته يولا تيموشينكو في الانتخابات الرئاسية الأخيرة التي جرت في مطلع عام 2010 وانتهت بفوزه بعد حصوله (في جولة الاعادة) علي تأييد 48.9% مقابل 45.4% للأخيرة.شغل يانوكوفتش (قبل فوزه بالمنصب الرئاسي عام 2010) منصب رئيس حكومة بلاده مرتين:الأولي (12 نوفمبر 2002 – 31 ديسمبر 2004) في عهد الرئيس ليونيد كوشما والثانية (4 أغسطس 2006 – 18 ديسمبر 2007) في عهد الرئيس فيكتور يوشينكو.وقد سبق ليانوكوفتش أن شغل منصب محافظ مقاطعة دونتسيك(الغنية بمناجم الفحم والثروات المعدنية الأخري) في الفترة من عام 1977 وحتي عام 2002 لينتقل بعدها الي كييف رئيسا للحكومة.الملف الجنائي ليانوكوفتش لم يكن ناصعا تماما، حيث سبق أن تعرض للسجن (وهو في السابعة عشر من عمره ) بتهمة السرقة المصحوبة بالعنف .عوقب الشاب يانوكوفتش بالسجن ثلاث سنوات قضي منها 18 شهرا خلف الأسوار قبل أن يتم تخفيف الحكم الصادر ضده في اطار حملة العفو عن المسجونين التي اعلنتها القيادة السوفيتية بمناسبة الذكري الخمسين لثورة اكتوبر الاشتراكية. الثورة «البرتقالية فور اعلان البرلمان الأوكراني، في الحادي والعشرين من فبراير الجاري، قراره بعزل يانوكوفتش من منصب رئيس البلاد، سارع النواب الي اصدار قرار بالعفو عن زعيمة المعارضة يولا تيموشينكو التي كانت تقضي عقوبة السجن لسبع سنوات بتهمة الفساد واستغلال النفوذ. خرجت أميرة الغاز من محبسها في 21 من فبراير الجاري (في ذات اليوم الذي اتخذ فيه البرلمان الأوكراني قراره عزل الرئيس فيكتور يانوكوفتش وتكليف رئيس البرلمان الكسندر تورتشينوف القيام بمهام رئيس الجمهورية وتحديد الخامس والعشرين من مايو المقبل موعدا لاجراء الانتخابات الرئاسية الجديدة.البرلمان الأوكراني (الذي كان الي يوم قريبا في قبضة حزب «الأقاليم» الموالي للرئيس المعزول) قرر أيضا استبدال رئبس جهاز الأمن الوطني والنائب العام ووزير الدفاع والمالية وغيرها من المناصب السيادية الحساسة. أزمة الطاقة تولت يولا تيموشينكو رئاسة الحكومة مرتين – الأولي في الفترة من 25 يناير 2005 الي 8 سبتمبر من نفس العام والثانية في الفترة من 18 ديسمبر 2007 الي 4 مارس 2010(كلتا المرتين في عهد الرئيس الأوكراني فيكتور يوشينكو).الفاتنة الأوكرانية،كما لقبتها الصحافة الغربية يولا تيموشينكو سبق لها العمل مع الرئيس الأوكراني ليونيد كوشما الذي أوكل لها حقيبة وزارة الطاقة في حكومة فيكتور يوشينكو .كان لتولي يولا تيموشينكو رئاسة شركة «يونيتد اينرجي سيستم» الحكومية عام 1996 ولعلاقتها القوية برئيس الحكومة الأوكرانية، انذاك، بافلو لازارينكو دور بالغ في صعود نجمها علي الصعيدين السياسي والاقتصادي.استغلت الفتاة المدللة(بمساعدة زوجها الذي عمل معها في نفس الشركة) ازمة الطاقة التي عاشتها أوكرانيا عام 1996 لتستحوذ لنفسها علي العديد من العقود الضخمة في مجال الطاقة ولتجنى ثروات هائلة قدرت(في أقل من عامين 1995 و1997) بحوالي 11مليار دولار وصارت تلقب بأميرة»الغاز».في مطلع عام 2001 تم القبض علي يولا تيموشينكو بتهمة الفساد والتهرب الضريبي واستغلال النفوذ في صفقة توريد 3 مليارات متر مكعب من الغاز الروسي لاوكرانيا.وبعد اطلاق سراحها مباشرة شرعت أميرة الغاز يولا تيموشينكو في تشكيل حزب سياسي باسم»الوطن الأم» وانخرطت في صفوف المعارضة الأوكرانية في مواجهة الرئيس ليونيد كوشما .لعبت تيموشينكو دورا بارزا في أحداث مطلع عام 2005 (نوفمبر 2004- يناير 2005) والتي عرفت بالثورة المخملية (أو البرتقالية) والتي تفجرت في اعقاب اغتيال أحد الصحفيين المعارضين لنظام الرئيس ليونيد كوشما، تلك الأحداث التي مهدت لفوز فيكتور يوشنكو (متحالفا مع أميرة الغاز يولا) علي منافسه فيكتور يانوكوفتش في انتخابات عام 2005. مكوث الفتاة المدللة يولا تيموشينكو في منصب رئيس الحكومة لما يقرب من أربعة أعوام كاملة (18 ديسمبر 2007 – 4 مارس 2010) ودعم حليفها الرئيس الأوكراني حينذاك فيكتور يوشنكو لها ضاعف من نفوذها وسطوتها السياسية والاقتصادية حتي باتت تستحوذ علي ما يقرب من 20% من اجمالي الناتج القومي الأوكراني.وكان من الطبيعي بعد هزيمة تيموشينكو في الانتخابات الرئاسية التي جرت في فبراير 2010 وفوز غريمها فيكتور يانوكوفتش أن يبادر الأخير باقالة حكومة أميرة الغاز وأن يبدأ التحقيق معها بتهمة الفساد واستغلال النفوذ انتهي الأمر بصدور حكم عليها بالسجن سبع سنوات. قومي متطرف وفور خروجها من السجن توجهت تيموشنكو الي ميدان «الاستقلال» في العاصمة كييف لتعلن عزمها تشكيل تحالف واسع من الأحزاب التي شاركت في الاطاحة بغريمها فيكتور يانوكوفتش.تجدر الاشارة هنا الي طبيعة الأحزاب التي خاطبت تيموشنكو ودها ودعتها الي التحالف مع حزبها ومن بينها «الحزب الأوربي» بزعامة القومي المتشدد نيكولاي كاتيرنيتشوك ورجل الأعمال البارز بيترو يوروشنكو الملقب بملك «الشيكولاته».وتقدر ثروة الأخير بأكثر من مليار دولار ويمتلك مجموعة ضخمة من المصانع لانتاج الحلويات والسيارات وحوض للسفن و»قناة5» التليفزيونية.ومن بين الأحزاب التي تعتزم يولا تيموشينكو التحالف معها حزب»سفوبودا»(وتعني الحرية) بزعامة القومي المتطرف أوليج تيا جينيوك الذي سبق له تحريض انصاره علي تحطيم عدد من تماثيل الرموز التاريخية السوفيتية والروسية.وكان تياجنيوك قد سارع، في اعقاب الاطاحة بالرئيس يانوكوفتش، الي نزع «النجمة الحمراء» التي يزين بها مبني البرلمان الأوكراني»الرادا». مكافحة الإرهاب الرئيس الأوكراني المعزول فيكتور يانوكوفتش وصف ما حدث بأنه انقلاب علي السلطة وأكد عزمه علي المقاومة ودحر من اسماهم بقوي اليمين المتطرف.يجمع المراقبون علي أن طرد يانوكوفتش من القصر الرئاسي لا يعني البتة انتهاء دوره السياسي،فمازال الرجل يتمتع بنفوذ كبير في المناطق الشرقية من البلاد،حيث الأكثرية الروسية.وفي أغلب الظن أن يانوكوفتش في انتظار وضوح الموقف الروسي من الأحداث الدرامية قبل التحرك لاستعادة عرشه وخوض جولة من المواجهة المحتمة مع خصومه قد تكون أكثر سخونة وربما دامية وخلافا لموقف نواب البرلمان من حزب «الأقاليم» الذي أسسه الرئيس المعزول الذين سارعوا الي التخلي عنه وتقديم استقالتهم من الحزب، أعلن رؤساء أربعة من المقاطعات الأوكرانية الكبري(لفوف وبولتافاو فينتسيا وتيرنوبيل) استقالاتهم احتجاجا علي ممارسات السلطات الجديدة ودعوا القوات المسلحة الأوكرانية الي الاستمرار في دورها لحفظ الأمن القومي للبلاد. تقديم 54 نائبا من نواب حزب «الأقاليم» (الموالي للرئيس المخلوع فيكتور يانوكوفتش) لاستقالتهم وانضمامهم للمعارضة، لم يحل دون انعقاد مؤتمر طارئ للحزب في الرابع والعشرين من فبراير الجاري في مدينة خاركوف (حضره ما يقرب من 4000 مندوب) لمؤازرة رئيسه واعلنوا تشكيل لجان شعبية لحفظ الأمن في مناطقهم ودعوا القوات المسلحة الي البقاء في ثكناتها وتأمينها.كما عاد خطر انفصال اقليم شبه جزيرة القرم يلوح في الأفق مجددا علي خلفية الأحداث الدرامية الأخيرة التي تشهدها أوكرانيا.والي جانب دعوات الانفصال عن أوكرانيا والعودة الي روسيا التي ارتفعت وتيرتها في الأقليم الذي تقطنه اغلبية ناطقة بالروسية(من السلاف والتتار) بادر رئيس محافظ مدينة سيفاستوبل أندرية تشالي الي انشاء»مركز مكافحة الارهاب» في المدينة بغرض الدفاع عنها والتصدي لمن أسمهم»المتشددين» من أنصار السلطات الأوكرانية الجديدة.هذا وأقدم عدد من أبناء الأقليم علي رفع العلم الروسي فوق مبني برلمان اقليم القرم تأكيدا علي تطلعهم للانضمام الي الاتحاد الروسي. في مرمي الاستقطاب الدولي مرة أخري(وربما ليست بالأخيرة) تجد اوكرانيا نفسها بين مطرقة روسيا وسندان الغرب. روسيا بادرت الي عدم الاعتراف بالسلطات الأوكرانية الجديدة ووصفت ما حدث في الثاني والعشرين من فبراير الجاري بأنه انقلاب علي الشرعية.وتصر موسكو علي العودة الي اتفاق 21 فبراير لتسوية الأزمة الأوكرانية،ذلك الاتفاق الذي وقعه الرئيس فيكتور يانوكوفتش(قبل يوم علي الاطاحة به) وقادة المعارضة بحضور وتوقيع وزراء خارجية كل من ألمانيا وبولندا وفرنسا وبلجيكا والولايات المتحدة والاتحاد الأوربي، وبعيدا عن الوجود الغربي الفاعل في الأزمة الأوكرانية لم يكن لموسكو الا أن تنظر بعين الشك والريبة لنشاط المنظمات القوميين الأوكرانيين المناهضة لكل ما هو روسي في أوكرانيا والذي وصل الي حد ترويع أبناء القوميات الروسية وتحطيم التماثيل الخاصة بالزعماء السوفييت والروس . لم تخف القيادة الروسية خيبة أملها واستياءها من الموقف الأمريكي والغربي الداعم للسلطات الأوكرانية الجديدة التي تولت زمام الحكم بعد الاطاحة بالرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفتش .ولم تكتف موسكو باستدعاء سفيرها من كييف، بل لوحت بعصا المساعدات الاقتصادية والمالية وهددت باعادة النظرة في حزمة المساعدات الروسية المقدمة لأوكرانيا والتي تقدر بخمسة عشر مليار دولار.كما حذر القادة الروس السلطات الأوكرنية الجديدة من عواقب المساس بخط أنابيب الغاز الروسي الممتد عبر الأراضي الأوكرانية والذي يمر من خلاله ما يزيد على 25% من الاحتياجات الأوربية من الغاز الروسي. وعلي الجانب الآخر بادر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري الي تأكيد دعم بلاده لقرار البرلمان الأوكراني عزل يانوكوفتش والدعوة لاجراء انتخابات رئاسية مبكرة في مايو المقبل. كما سارع الاتحاد الأوربي الي تأكيد دعمه للسلطات الأوكرانية الجديدة وتقديم المساعدة الاقتصادية لها.جاء هذا ردا علي تصريحات القائم بأعمال وزير المالية الأوكراني الجديد يوري كولوبوف حول الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها بلاده واحتياج الاقتصاد الأوكراني لما يزيد على 35 مليار دولار لاحداث الانعاش المرجو وادارة عجلة الانتاج من جديد.كما أعلن كل من وزير الخزانة الأمريكي جاكوب ليو ونظيره البريطاني جورج أوزوبورت استعداد بلادهما تقديم حزمة كبيرة من المساعدات المالية والاقتصادية لأوكرانيا بهدف مساعدة السلطات الأوكرانية الجديدة علي استكمال مسيرة الديمقراطية،علي حد القول.تبقي الكلمة الفصل في الأزمة الأوكرانية للجارة القوية روسيا،وحينذاك لن يسعف السلطات الأوكرانية الجديدة لا الدعم السياسي ولا المساعدات المالية.فهل تكرر موسكو السيناريو»الجورجي» عندما دفعت بقواتها المسلحة الي عمق الأراضي الجورجية وطردت قوات «شيكاشفيلي» من جمهورية أوسيتيا المتنازع عليها بين روسيا وجورجيا؟