وهذا كان الأمر مع الحليف الناصري.. أن تلتزم بمجرد تأييده «وكان يستحق التأييد» وألا تتحرك بقول أو فعل إلا إذا أتي منه أمر بذلك، ويمضى الأمر على هذا المنوال.. حتى تحول الحليف إلى نمر مفترس. وفى أول أيام 1959 ينقض الحليف الناصرى على حلفائه من الشيوعيين فى أكبر حملة قبض شهدتها مصر منذ عهد الطاغية إسماعيل صدقى (1947)، ارتبك العمل التنظيمى مئات الكوادر استضافهم الحليف فى بيوت ضيافة بدأت على الفور بترحيب نازى المذاق، ودارت ماكينة تعذيب شرس، تم استدعاء ليلى إلى اجتماع عاجل، تم الاجتماع سيرا على الأقدام فى ظلام مساحات من الكورنيش حضره معها مارى بابادبلو وقدرى شعراوى وآخر لا يعرفه أحد منهم أسمى نفسه «مدحت» تهامسوا بأنه خارج لتوه من السجن، وهارب لتوه من حكم الرقابة المسائية، الاجتماع كان لتشكيل لجنة حزبية لرعاية أسر الرفاق المقبوض عليهم ولتقصى أخبار المسجونين وأسلوب معاملتهم، تفرق الاجتماع على موعد بينها وبين مدحت لمواصلة فحص حالة العائلات واحدة واحدة وكيفية إيصال المساعدة المالية لها، وكيفية تدبير هذه المساعدات فى ظل حالة الارتباك التى سادت الجميع من أعضاء وأصدقاء للحزب، عدة لقاءات سارا فيها جنبا إلى جنب كان وجهه خاليا من المشاعر فقد تعلم أن يحترم «الرفيقات» والعمل الحزبى لا يسمح حتى بترف النظر إلى عينى الرفيقة، لكن كل منهما أخذ فى اختراع مبررات للقاءات عديدة ومتكررة ربما ليس مسموحا بها فى ظل المناخ الإرهابى القاتم. ورويدا رويدا لانت الملامح مع تحفظ متشدد من كل منهما، ثم إذا به لم يحضر، أبدا لم يتأخر عن موعد، كان قد أعطاهم اسم «كريمة» زوجة الرفيق محمد الزعفرانى كبديل إذا قبض عليه، ومن كريمة عرفت اسمه الحقيقى وأنه قبض عليه، قلبها انقبض أكثر مما يجب، وسالت دموع لا تحدث فى حالات القبض الأخري، ورتبت مع كريمة زيارة له فى السجن، ومرة أخرى بحثت عن مبرر لا مبرر له سوى رغبتها فى رؤيته، وزارته وساعتها شعرت وشعر هو أن الحاجز الحديدى الذى يفصل بينهما جمعهما بأكثر مما توقع كل منهما، ووعدته بزيارته مرة أخري، ولم تحضر وعرف من «كريمة» أنها قبض عليها وأنها فى سجن القناطر نساء، وبعد فترة نقل هو إلى سجن القناطر رجال، المسافة بين السجنين قصيرة جدا.. مجرد جدار، لكنها بعيدة جدا، هو استخدم خبرته فى اجتياز الحواجز الأمنية وتراسلا عن طريق أحد المسجونين العاديين المسموح لهم بالتنقل بين السجنين وعبر ورق البافرة تراسلا، فى البداية كانت الرسائل حزبية جافة تحمل أخبارا تتسرب من الخارج وقليلا قليلا بدأت كلمات مغلفة بحذر شديد بالعواطف ثم انهارت سدود الحذر وصار هناك نوعان من الرسائل إحداهما حزبية والأخرى عاطفية، الدكتورة «ايدا» والدكتور صادق تعاطفا مع هذه العلاقة وأسهما فى تبادل الهدايا والرسائل، وذات يوم رتب د. صادق مجالا للرؤية استدعاه للعيادة واستدعاها للكشف عليها ومن بعيد لمحها كانت قد لبست أجمل ثيابها وأبهى زينتها، هو كان كالجميع حافيا ويلبس شوالا من قماش السجن الأبيض، ليس مسموحا بالاقتراب ولا بالتحية فقط تبادلا النظرات، أرسلت له مع د. صادق منديلا من حرير أبيض طرزته بيديها وبه الحرف الأول من اسمها واسمه، حافظ عليه واستمد منه طاقة لا تنفد عبر سنوات وسجون عدة ولم يزل يحتفظ به إلى الآن. هو إلى المحاكمة العسكرية فخمس سنوات أخرى وهى تبقى فى السجن أربع سنوات تتواصل المراسلات ويتواصل معها الانتظار، هى خرجت بعد السنوات الأربع عاندت عائلتها وصممت على انتظاره، وفور الإفراج عنها عادت إلى صفوف الحزب، كان كل شيء حذرا، ومترددا ولعل السؤال الذى حلق فوق الجميع أو بالدقة الغالبية. وماذا بعد؟ ومحمود توفيق دربها على كتابة رسائله إلى الرفاق بالسجون بالحبر السري، وبعدها بفترة صدر لها قرار بالانضمام إلى التنظيم الطليعى وتبقى فيه شاهدة على أحداث وأخطاء وخطايا، لكنها تبقى فالحزب صدر قرار بحله، ولم يبق مجال آخر، وفى 15 مايو يلهث إليها قرار سرى من قيادة التنظيم الطليعى بأن أعضاء التنظيم سيحتشدون أمام جامع شركس بعد صلاة الجمعة لتنظيم مظاهرة احتجاج على قرارات السادات بالقبض على قيادات التنظيم، ذهبت مملوءة حماسا، خرج المصلون.. هتفت ولم يرد أحد. هتفت وهتفت وانصرف الناس فيما عداها وعضو آخر، مرة أخرى يخذلها النمر الناصري، المرة الأولى لأنه مفترس والمرة الثانية لأنه قط. وعندما يتأسس منبر اليسار تكون من أوائل من انضموا إليه، ثم تكون مع أول تشكيل للمكتب النسائى ومع أول من أسسوا اتحاد النساء التقدمي، ولم تزل.