الوعي الزائف ونقيضه أسفرت الانتخابات التشريعية الأخيرة في مصر من ضمن ما أسفرت عنه في جولتها الأولي، عن وعي مشوه لدي قطاعات واسعة من جمهور الناخبين يشوب نظرته للسياسة التي اختزلها هذا الوعي في مجموعة من الخدمات والمصالح المحلية أو الشخصية الصغيرة.. ولم ينظر هذا الوعي لأفق أوسع هو منظومة السياسات العامة التي ينتهجها الحكم من حيث فلسفتها ورؤاها ومنطلقاتها. ويتطوع بعض المحللين والصحفيين باتهام الشعب المصري بالباحث عن مصلحته قصيرة النظر والمحدودة، كما أن توجها مصلحيا نفعيا بل وانتهازيا مباشرا يقود خطوات المصريين كما يقال في عالم السياسة متغاضيا عن الأهداف العامة التي تمس جوهر المنطلقات والاختيارات السياسية. كذلك سارع بعض المحللين إلي توجيه الاتهام للأحزاب السياسية والحركة الديمقراطية المعارضة بأنها فشلت في أن تنشر وعيا مغايرا في أوساط الجماهير لتري أبعد من المصالح الصغيرة، بل تضع هذه المصالح الصغيرة نفسها في إطار أوسع وأشمل هو إطار الخيارات العامة لنظام حكم طبقي تسلطي منحاز للأقلية الغنية المتمكنة علي حساب الأغلبية من المنتجين والكادحين. ويتجاهل هؤلاء جميعا أن تفوتهم حقيقة النظام القائم الذي هو خليط من الليبرالية الاقتصادية والاستبداد السياسي، أو الشمولية السياسية بالأحري التي يندمج فيها الحزب الحاكم بالدولة، وتسيطر الأخيرة علي بعض أهم أدوات التنشئة وبناء الوعي من الإعلام للمدرسة إلي المؤسسة الدينية إسلامية ومسيحية، وتتفاعل هذه المؤسسات فيما بينها لتنتج الوعي السائد وتشكل آليات الثقافة السائدة وتوجهاتها، أي أن نظام الحكم هو المسئول الأول عن نشر هذا الوعي دون أن نقلل من مسئولية الأحزاب والقوي الديمقراطية.، ومع بدء سياسة الانفتاح الاقتصادي التي كان من ضمن حصادها ولادة الروح النفعية الاستهلاكية التجارية، ورواج شعار انتهازي يقول «اللي تكسب به إلعب به» بصرف النظر عن وسائل الكسب واللعب، ساد المفهوم الطبقي للسياسة التي يقال إنها فن الممكن، والممكن هو آني وقريب المنال ومنفصل كلية عن الممكنات الأخري في الواقع وعن الأهداف البعيدة شأن التحرر وتصفية الاستغلال وإعادة بناء العلاقات الاجتماعية علي أساس من الكرامة والمساواة والعدالة، وعندما يسود هذا المفهوم فإن القطاع الغالب من الجمهور ينظر تحت قدميه، ويعيد الوعي السائد إنتاج نفسه، وتتآكل الروح الجماعية وتقاليد العمل المشترك، وتسود النزعة الفردية والحل الشخصي في ظل غياب أي بديل مع زيادة الفقر والبطالة واليأس العميق. ومن جهته يقوم النظام الشمولي مضمونا والتعددي شكلا بحصار الوعي الجديد ومؤسساته، هذا الوعي الذي تخلقه نضالات القوي الديمقراطية من أحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني، ويبدو عمل هؤلاء جميعا كأنه حرث في البحر، خاصة أن الجمهور الواسع يري جيدا كيف أن الواقع البائس يعيد إنتاج نفسه ولا شيء يتغير، والأهداف البعيدة لا تقترب، فيختار بشكل عملي أن يركز علي الأهداف القريبة جدا والشخصية جدا وتتكرس الفردية والأنانية، وتبرز مجددا في ظل مجتمع - دخل إلي الحداثة ولو ببطء كل الهويات ما قبل الحديثة من الانتماءات الأولية للأسرة للقبيلة للعشيرة للمنطقة التي تصبح جميعها ملاذا في ظل ركود المجتمع الكبير بل وتحلله، وفي ظل الخوف العميق الذي تخلقه حالة الطوارئ الدائمة وعنف الدولة البوليسية المكتوم والمعلن. للوعي المشوه إذن أسباب عميقة في الاختيارات السياسية لنظام الحكم الذي أطلق وحش الرأسمالية الطفيلية المنفلتة، وصادر قدرة الجماهير العاملة علي مقاومتها وبالتالي قدرتها علي خلق وعي جديد ضد السائد وخلق هذا الوعي الجديد في ظل الكفاح اليومي لهذه الجماهير وهي «تعافر» من أجل تحسين حياتها وتتسع المسافة في كفاحها هذا ما بين النضال الاقتصادي والعمل السياسي.. سوف يحتاج هذا كله وقتا طويلا جدا لقطع هذه المسافة بين ميداني الكفاح لا فحسب بسبب أشكال القيود والحصار، وإنما أيضا بسبب هذا الوعي المشوه الذي تتفاعل عوامل كثيرة جدا لإنتاجه لتكون الجماهير العاملة هي الضحايا الأولي لانتشاره وتجذره ويكون علينا نحن الكتاب وأصحاب الرؤي التقدمية ودعاة الأمل في المستقبل أن نظل لمدي طويل نكتب عن «الوعي الجنيني» الجديد ولكن الشيء المؤكد أن هذا الوعي الجديد ينضج علي مهل وإن في ظروف صعبة.