ثقافة الفقاعات هل انتهي عصر الفقاعات الثقافية بما فيه من مواد استهلاكية خفيفة وإزاحة للقيم الكبري والأفكار والقضايا الرئيسية وعلي رأسها فكرة الثقافة العامة التي تعمل كعنصر توحيد وتجانس للطبقات الاجتماعية وللمجتمع؟ يرد الكاتب الأمريكي «دافيد بروكس» علي هذا السؤال بالإيجاب وهو يعلق علي اندماج النسخة الورقية من مجلة «النيوزويك» في نسختها الإلكترونية بعد المصاعب المالية التي واجهتها النسخة المطبوعة، وهي مصاعب تواجه كل الصحافة والثقافة الجادة والرفيعة في العالم أجمع نتيجة للمنافسة الضارية مع وسائل الاتصال الحديثة التي تتطور يوميا دون مبالغة من التليفزيون للإنترنت، وتجذب إليها ملايين البشر الذين يكتفون بها بديلا عن الصحف والمجلات والكتب. ويري «بروكس» أنه بعد «الهوجة» الكبري لوسائل الاتصال هذه أخذ الأمريكيون في السنوات الأخيرة يستعيدون تقاليدهم الثقافية التي بدأت في القرن التاسع عشر، وعلي أساس من هذه التقاليد المستعادة سوف تنهض صناعة الكتاب والمجلات الجادة مرة أخري، وقد بدأت هذه النهضة فعلا. ومن التقاليد التي يركز عليها «بروكس» مقاله فكرة التطوير الثقافي الذاتي حيث اعتاد الأمريكيون وهم يبنون شخصياتهم ويسعون للتقدم في المجتمع أن يتعرفوا - أيا كانت وظائفهم عمالا.. بائعين.. فلاحين.. أو ربات بيوت - علي أفضل ما أنتجه الفكر البشري والمعارف الإنسانية، وكان من الشروط التي يكتسب بها الإنسان الاحترام في محيطه الاجتماعي وأمام نفسه أن يتعرف علي روائع الأعمال الثقافية بجدية وهو يكافح ضد النزعة المادية والنفعية الرخيصة والاستهلاكية في الثقافة، وحتي يفعل المرء ذلك عليه أن يكون محاورا جيدا في الفلسفة واللاهوت والأحداث السياسية الكبري في العالم أجمع، ويقتضي ذلك متابعة جيدة للإنتاج الثقافي والفكري السياسي والابتعاد قدر الإمكان عن المعلومات المخطوفة المبتسرة كان هذه القيم الرفيعة - طبقا لبروكس - قد طبعت وسائل الاتصال الأمريكية لأكثر من قرن وكانت الأسر الفقيرة تجمع الأموال فيما بينها لشراء موسوعة المعارف، أو الاشتراك في منتدي كتاب الشهر، وشراء كتاب ويل ديورانت عن الحضارة من عدة أجزاء وظهرت مجلات مثل النيوزويك، و«هاربر سترادي ريفيو» و«التايم» لتلبية هذا الاحتياج الثقافي. وأفردت كل من «النيوزويك» و«التايم» لعقود طويلة صفحات للأوبرا والفن واللاهوت أكثر من تلك التي أفردتها لكل من هوليود والقضايا الصحية، أما القضايا التي أثارتها بخصوص الفن واللاهوت فقد أشعلت خيال مئات الآلاف من المراهقين والشابات والشبان المتشوقين لملعرفة والتقدم في الحياة عبر هذه المعرفة وذلك قبل أن تحرث الثقافة الاستهلاكية الأرض وتهمش تلك التوجهات المبنية علي القيم العليا وتفسح المجال لوسائل الاتصال الحديثة والسريعة أي لعصر الفقاعات كما وصفه «بروكس». بوسعنا أن نتبين نمو مثل هذه الظاهرة في ثقافتنا المصرية والعربية أي العودة - ولو البطيئة نسبيا - إلي الجدي والرفيع بل ودخول مئات من الشبان والشابات إلي ميدان الإنتاج الأدبي والفكري الذي يخاصم الطابع الاستهلاكي التجاري لثقافة الاتصال الجديد، بل إن بعض هؤلاء الشبان والفتيات يستخدمون الإنترنت علي نحو خاص للتواصل الكفاحي والسياسي وليس لمجرد الدردشة والتواصل الاجتماعي، وتلعب وسائل الاتصال الحديثة دور الداعم الإضافي للمجلات والصحف الجادة والكتب الرفيعة وتفتح لها الآفاق علي جمهور جديد، وبقي أن يعتدل الميزان بين المادة المطبوعة من كتب ومجلات والمادة المبثوثة إلكترونيا، وفي ظني أن كلا من الكتاب والمجلة والصحيفة المطبوعة لن تختفي كما يقال ولكنها ستطور نفسها لتلبية احتياجات جديدة باعتبارها هي نفسها - إن كانت جدية ورفيعة - عاصما ضد الثقافة التجارية الاستهلاكية أو ثقافة الفقاعات. ولعلنا سوف نلاحظ أن ما يسميه «بروكس» بالعودة إلي الثقافة الجادة قد ارتبط بالأسئلة السياسية الكبري التي تسألها الشعوب عن مصيرها بعد أن ثبت عجز الرأسمالية وبخاصة جناحها الطفيلي المضارب والسائد عن تقديم حلول جدية للأزمة العامة التي تواجهها البشرية في العقود الأخيرة، وقدمت بعض شعوب أمريكا اللاتينية ردودها في انتخابات عامة قائلة إننا في حاجة إلي نظام اجتماعي - اقتصادي جديد يتجاوز الرأسمالية وربما يكون جنينا مثل هذا النظام البازع هو الذي بث الحياة مجددا في الثقافة الجادة وأزاح إلي الخلف ثقافة الفقاعات التي أنتجتها الطفيلية وروجت لها.