نتيجة الانتخابات البرلمانية التي جرت يوم 22 سبتمبر تعني علي الاغلب ان المياه ستسيل في مجاريها القديمة. سيسود نفس المنهج سواء في السياسات الداخلية أو الخارجية. ولم يكن ثمة احتمال آخر تأكيدا لشعار متشائم رسمته جماعات من الشباب علي الجدران ويقول الشعار "لو أن بمقدور الانتخابات أن تغير الاوضاع لكانت الدولة قد منعتها". يوم الجمعة القادم تبدأ المشاورات بين المستشارة ميركيل وقادة الديمقراطيين الاجتماعيين والموضوع هو امكانيات تشكيل حكومة ائتلافية، وقد تسلم حزب الخضر ايضا دعوة لمشاورات لبحث الموضوع ذاته في موعد لاحق. وتقدر الدوائر السياسية ان المشاورات ربما لا تنتهي الي نتيجة قبل نهاية العام الحالي. والطرفان اللذان سيجري المحافظون المشاورات معهما يحسبان الف حساب لما يمكن ان تسفر عنه المشاركة في حكومة ترأسها السيدة ميركيل. الممارسة تؤكد ان المتحالفين مع المحافظين يخسرون ثقة جزء كبير من جماهيرهم. ومأساة حزب الاحرار ماثلة. كان حزب الاحرار قد حصل علي ما يقارب 15 % في عام 2009 وبهذه النسبة شارك ميركيل في الحكم، وبعد اربع سنوات لم يتمكن حتي من تحقيق نسبة ال 5 % التي تتيح له دخول البرلمان. وكان الحزب الديمقراطي الاجتماعي الحليف السابق للمحافظين في الحكم من سنة 2005 الي 2009، بدأها بالحصول علي تأييد 34 بالمائة من الأصوات، وانهاها بأن انفض عنه نحو ثلث ناخبيه. حيرة الحزب الديمقراطي المشكلة الاولي داخلية. كثرة من ناخبي واعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي لا يقبلون بعد سنة من التعبئة في صراع انتخابي ضد المحافظين أن تأتي حكومة مشتركة يكون فيها لحزبهم دور الشريك الاصغر للمحافظين. وتقول هانيلوره كرافت نائبة رئيس الحزب الديمقراطي الاجتماعي ورئيسة وزراء ولاية شمال الراين وفيستفالين أن 90 % من الاعضاء في ولايتها يرفضون التحالف مع المحافظين. ولكن استطلاعات الرأي في عموم المانيا تذكر ان اكثر من نصف اعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي يؤيدون تشكيل حكومة مشتركة مع المحافظين. وهناك مخاوف جدية لدي قيادة الديمقراطيين الاجتماعيين من ان يؤدي التخلي عن جوانب مهمة من البرنامج الاقتصادي الاجتماعي للحزب ثمنا للحصول علي مناصب وزارية الي هجرة اجزاء من عضويته الي حزب اليسار كما حدث سابقا.. وبرنامج الديمقراطيين الاجتماعيين الانتخابي يتضمن سجلا طويلا من الاجراءات الاجتماعية. ولنسجل في البداية ان معظم الاجراءات المتضمنة مأخوذة من برامج حزب اليسار، سواء بالنص، او بقليل من التحوير، وهي مطالب اجتماعية كانت حكومات الديمقراطيين الاجتماعيين ترفضها وتسخر منها، اثناء وجودها في الحكم سواء في الحكومة الاتحادية او في الولايات. ومن اهم الوعود اقرار حد ادني للاجور، والذي تأخذ به 21 دولة من دول الاتحاد الاوروبي. وتتضمن وعود برنامج الديمقراطيين الاجتماعيين تحسين اوضاع اصحاب المعاشات، واصلاح نظام رعاية المسنين، والتأمين الصحي. وهنا تأتي نقطة رئيسية كانت محل صراع انتخابي شديد وهي كيفية تغطية تكلفة الاجراءات الاجتماعية. الديمقراطيون الاجتماعيون طالبوا بزيادة الضرائب علي الفئات التي تحتل قمة هرم الدخول. وبالدقة ارادوا العودة عن قرارهم عندما كانوا في الحكم والذي خفض الحد الاقصي للضريبة من 53 بالمائة (وهي النسبة السائدة في ظل حكم المستشار كول) الي 42 بالمائة. المحافظون شنوا حملة شرسة منذرين بأن هذه الزيادة ستخرب الاقتصاد وتدمر اقتصاد الفئات المتوسطة. ولكن الآن ثمة تسريبات تقول انهم رغم نفيهم المتكرر يؤيدون رفع الضرائب اقترابا من شريك الحكم القادم.. والمشكلة الثانية تخص الممارسة الديمقراطية. لو تشكلت حكومة ائتلافية من المحافظين، أي كتلة الاتحاد المسيحي الديمقراطي والاتحاد المسيحي الاجتماعي (بافاريا)، مع حزب الديمقراطيين الاجتماعيين سيعني هذا ان الحكومة تملك اكثر من ثلثي الاصوات في البرلمان، مما يهدد جوهر الديمقراطية البرلمانية لوجود اغلبية ميكانيكية ليس بامكانها فقط حسم كل العمليات التصويتية لصالحها، بل بامكانها ان تهيمن علي اللجان البرلمانية المتخصصة، كافة وباستطاعتها ايضا أن تحول دون تشكيل لجان تحقيق برلمانية، أو تحولها الي أمر صوري. أزمة حزب الخضر لا يمكن التكهن الآن بمستقبل حزب الخضر الذي عصفت به ازمة داخلية ناجمة عن الهزيمة الانتخابية الثقيلة والتي أدت لاستقالة قيادته والآن تتشكل قيادة جديدة شابة في ظل هجوم علي البرنامج الانتخابي الذي خاض الحزب به المعركة الانتخابية والذي اتسم بتوجه اجتماعي أوضح من الماضي واستهدف رفع المعاناة عن الفئات ذات الدخول لضعيفة وتحميل قمة الاغنياء ضرائب اعلي (زيادة الضرائب علي 10 % من السكان وتخفيضها علي 90 %!!). الارتباك السائد في اوساط الخضر لا يمكن من مراجعة حقيقية لاسباب الهزيمة ومن الصعب تصور انهم يقررون الآن الدخول في تحالف مع المحافظين. حزب اليسار حزب اليسار الذي اصبح يمثل القوة السياسية الثالثة في البرلمان الاتحادي والذي في حال تشكيل حكومة التحالف الكبير سيكون زعيم المعارضة البرلمانية يُعِدُ اختبارا للديمقراطيين الاجتماعيين والخضر ليعرف الرأي العام مدي ثبات من تقدموا للحصول علي ثقته في تحقيق الوعود الانتخابية. يوم 22 اكنوبر في جلسة البوندستاج وقبل تشكيل الحكومة الجديدة سيطرح اليسار مشروع قانون حول "الحد الأدني للأجور" والذي كان مطلبا لثلاثة احزاب (اليسار، الخضر والديمقراطيين الاجتماعيين). والاغلبية المطلوبة لاصدار هذا القرار متوفرة لو صوت كل من اليساروالخضر والديمقراطيين الاجتماعيين لصالحه. زعيم حزب اليسار جريجور جيزي لم ييأس من الدعوة لتشكيل حكومة تحالف من الثلاثة احزاب المذكورة، وهي التي تمثل اغلبية برلمانية علي يسار المحافظين. هذا الاحتمال – البعيد واقعيا بسبب تكرار الديمقراطيين الاجتماعيين لرفضهم التحالف مع حزب اليسار- لو تحقق سيكون بامكانه احداث اصلاح اجتماعي مهم في المانيا . حزب اليسار هو الحزب الوحيد في البرلمان المعارض للعمليات العسكرية خارج المانيا ولسياسات حلف الناتو، والوحيد الذي رفض السياسات النيوليبرالية ونهج المانيا في ازمة اليونان. ولكن ما التنازلات التي قد يقبل اليسار بتقديمها في حال التفاوض علي تشكيل التحالف البديل لحكم المحافظين؟