المعركة الانتخابية تركزت علي السياسات الاجتماعية الاقتصادية الداخلية. ايضا الازمات الاوروبية لعبت دورا ولكن موضوعات السياسة الخارجية لم تلفت الاهتمام الجماهيري باستثناء التجسس العالمي الذي تمارسه الاجهزة الامريكية. والمختصر المفيد: في انتخابات البرلمان الالماني الاتحادي (بوندستاج) انتصر التحالف الذي تقوده السيدة انجيلا ميركيل، حزب الاتحاد المسيحي الديمقراطي، وحليفه الاتحاد المسيحي الاجتماعي (الموجود في ولاية بافاريا) بتحقيق نسبة عالية 5.41% ويشكل الحزبان المحافظان كتلة برلمانية واحدة في البوندستاج. ويتقدم تحالف ميركيل عن الحزب الديمقراطي الاجتماعي بفارق كبير يبلغ 16 نقطة. ثم يأتي حزب اليسار في المركز الثالث 6.8% ويليه حزب الخضر 4.8%. انتصار ميركيل هو الذي احتل الصفحات الاولي من الصحف ونشرات الاخبار الاليكترونية. ولكن هذا النصر وحده لا يكفي لتشكيل حكومة. اذ سقط حزب الاحرار الديمقراطي في الانتخابات، اذ لا يؤهله حصوله علي 8.4% من الاصوات لدخول البرلمان. القانون يشترط نسبة 5 % كحد ادني. وسقط ايضا حزب آخر هو "حزب البديل من اجل المانيا" ذو التوجه اليميني والمناهض للاتحاد الاوروبي، وهو حزب تأسس منذ بضعة شهور واستطاع ان يحصد نسبة 4,7 % من المحاولة الأولي. نتيجة فشل عدد من الاحزاب المتنافسة في الانتخابات الحالية (من بينها: "الاحرار" و"بديل من أجل ألمانيا" و"النازيون الجدد" و"القراصنة") في تحقيق نسبة الخمسة بالمائة تذهب الاصوات الممنوحة لهذه الاحزاب للاحزاب الناجحة فيزيد عدد مقاعدها البرلمانية. وكادت السيدة ميركيل أن تحصل علي الاغلبية المطلقة، لان الاحزاب الفائزة تكافئ فتحصل علي اصوات الاحزاب الخاسرة فيزيد عدد نوابها في البرلمان. ميركيل هي التي ستختار شريكها في الحكم الاحتمال الاكبر هو تشكيل حكومة ائتلافية من المحافظين والديمقراطيين الاجتماعيين. ولكن الراي العام الالماني وكذلك اعضاء الحزب الديمقراطي الاجتماعي منقسمون حول هذا الاحتمال. الذين يؤيدونه يريدون "الاستقرار"، اي بقاء الامور علي ماهي عليه. الجزء الاعظم من ناخبي الديمقراطيين الاجتماعيين صوتوا لهذا الحزب دعما لبرنامجه الانتخابي الذي تضمن من ناحية نقدا حادا لسياسات ميركيل الاجتماعية، كما انه يعد، ولو في حدود معينة، تراجعا عن بعض السياسات الاجتماعية التي صاغتها حكومة الديمقراطيين الاجتماعيين والخضر السابقة بقيادة المستشار شرودر، والتي مثلت أكبر هجمة للسياسات النيوليبرالية علي مصالح وحقوق العاملين في المانيا، السياسة التي لم تجرؤ حكومات المحافظين علي اقرارها مثل قرارحكومة شرودر بتخفيض الحد الاقصي للضرائب علي الراسماليين. ومشاركتهم في اقرار قانون مد سن العمل الي 67 سنة بدلا من 65 سنة خلال فترة الحكومة الائتلافية بين الديمقراطيين الاجتماعيين والمحافظين. تجربة الديمقراطيين الاجتماعيين في ما سبق من حكومات ائتلافية مع المحافظين تجعلهم يترددون، اذ سقطت شعبيتهم كل مرة، واضيرت علاقتهم مع النقابات ومع الجماهير لان التحالف مع المحافظين يعني القبول بأولوية مصالح دوائر الاقتصاد. كثرة من المحللين يعتقدون ان الاقتصاد الالماني والحلفاء الاطلسيين ينتظرون تشكيلا سريعا لائتلاف قوي مستقر، وهذا يعني حكومة ائتلافية من المحافظين والديمقراطيين الاجتماعيين. ولكن بالامكان ايضا – نظريا – تشكيل حكومة ائتلافية من المحافظين مع حزب الخضر، وهو احتمال ضعيف للفروق السياسية العميقة التي تفصل بين الطرفين. سقوط حزب الاحرار النهاية المأساوية لحزب الاحرار في البرلمان الاتحادي، وهو الحزب الذي ظل ممثلا في البوندستاج منذ تأسيسه سنة 1949 وشارك في معظم الحكومات الائتلافية الالمانية بوزراء الخارجية احدثت صدعا في البنية السياسية في المانيا. حزب الاحرار مثل نظرائه في اوروبا جاء تاريخيا صدي لأفكار الليبرالية والتنوير في القرنين السابع والثامن عشر في اوروبا. وكانت حرية الانسان الفرد من الاهداف الرئيسية للايديولوجية الليبرالية آنذاك. تطور الرأسمالية، وبخاصة في زمن العولمة، انتهي الي توظيف شعارات الليبرالية لمصلحة حرية غير محدودة للرأسمال، والتي تؤدي بالضرورة الي تضييق نطاق حرية الانسان العامل، الظاهرة التي دفعت الاقتصادي المصري المرحوم الدكتور رمزي زكي لابداع مصطلح "الليبرالية المستبدة". يتفق المحللون في ان سقوط حزب الاحرار جاء بسبب ابتعاده عن التقاليد العريقة لليبرالية وعمله كوكيل لمصالح فئات الميسورين. اصطياد الاصوات بشعارات مسروقة شهدت هذه الانتخابات اكبر عملية استعارة للشعارات، او بالاحري سرقة الشعارات. علي سبيل المثال: حزب اليسار هو اول من ناضل باصرار من اجل اقرار حد ادني للاجور. ورغم ان 21 دولة اوروبية (منها فرنسا وبريطانيا) بها قوانين تنص علي حد ادني للاجور يرفض المحافظون والاحرار في المانيا تقنين ذلك بحجة توقع الاضرار بالاقتصاد وبزيادة اعداد المتعطلين. بعد سنوات من التردد تبني الديمقراطيون الاجتماعيون المطلب في برنامجهم. ثم حل الدور علي المحافظين عندما تبنوا المطلب في صياغة مختلفة بعض الشئ رغم ان كل حكوماتهم تعارضه. صحافة الرأسمال اتهمت ميركيل بأنها سارت بحزبها علي طريق الديمقراطيين الاجتماعيين. وتجأر هذه الصحف بالشكوي من الدولة "الراعية" أو "الأم" لأنها توفر بعض الضمانات ضد الفقر. بدون اليسار لن تتحقق الوعود الانتخابية السخية الديمقراطيون الاجتماعيون يكررون بسبب ومن غير سبب التصريح بانهم لن يشتركوا في حكومة ائتلافية مع اليسار رغم الالتقاء في العديد من الاصلاحات الاجتماعية المبتغاة من الحزبين. وبعض من الخضر يكررون ذات المعزوفة. ويذكر هذا المشهد بطقوس الاعراب عن الولاء لآلهة قديمة في عصور غابرة. ولكن هناك خلافات حقيقية. حزب اليسار يرفض اي مشاركة عسكرية المانية في الخارج مثلما في افغانستان. واليسار هو الطرف الوحيد في البرلمان الذي يصوت كل مرة ب «لا» ضد التمديد لبقاء قوات المانية في الخارج ويرفض تصدير السلاح. وبالرغم من وجود خلافات حول السياسات الاقتصادية والاجتماعية الا ان التطور السياسي انتج ارضية واسعة للالتقاء في مواجهة الازمة الاقتصادية، وللعمل المشترك لتحقيق التحول في مجال الطاقة ولمواجهة القضايا المعقدة الناتجة عن التطور الديموغرافي. الواقع يؤكد ان رفض التعاون مع اليسار يؤشر الي عدم جدية احزاب الوسط في تحقيق التغيير الاقتصادي الاجتماعي الذي تعد به في دعاياتها الانتخابية.