أساس الخلافات وراء شلل الحكومة ينبع من الأزمة الاقتصادية والخزينة الخاوية رغم البيانات المتفائلة عن تحقيق الاقتصاد الالماني نموا ملموسا مصدره نمو الصادرات، ورغم التصريحات الرسمية بانتهاء الازمة اعلنت معاهد استطلاع الرأي ان حكومة المستشارة ميركل (المحافظين) ووزير الخارجية فيسترفيله (الاحرار) فقدت تأييد غالبية الالمان بحيث توفرت للمعارضة اغلبية تصل الي 60 بالمائة مقابل 36 بالمائة لاحزاب الحكومة. ذلك بعد عشرة اشهر فقط من تشكيل الحكومة الائتلافية الالمانية. ومنذ تسلم مهمة الحكم وبعد الاعلانات الاحتفالية عن وصول التحالف الصحيح للحكم اثبتت حكومة المحافظين والنيوليبراليين عجزها عن تحقيق التغيير المنشود لضمان تطور اقتصادي واجتماعي مستقر. الوعود التي اطلقتها الاحزاب الحاكمة في خضم الازمة بعزمها علي إحكام الرقابة علي الرأسمال المالي واعترافها بأن اقتصادات السوق الاجتماعية تشترط احكام الرقابة والتنظيم، أي تشترط وقف انفلات الراسمال المالي وتحكم البنوك في الاقتصاد .. كلها ذهبت هباء. منذ تسلمها مسئولية الحكم في اكتوبر 2009 بدأت حكومة المحافظين والاحرار مسيرة متعثرة ومتناقضة شهدت خلافات علنية مستمرة بين الحليفين حول التوجهات الرئيسية للحكم. وطالت الخلافات مجالات السياسات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والتعليمية. ووصل الامر ليس فقط للهجوم المتبادل بين وزراء في الحكومة من حزب الاحرار والحزب الاجتماعي المسيحي (البافاري)علي سياسة زملائهم بل ايضا الي تبادل الشتائم. حكومة لا تحكم واساس الخلافات المؤدية لشلل الحكومة ينبع من الازمة الاقتصادية والخزينة الخاوية التي تحد من مناورة الحكومة في مجال السياسات الاجتماعية خاصة. وتكتشف كافة المجتمعات الرأسمالية تحت وطأة الازمة ان مواصلة سياسة الانصياع للرأسمال وفي نفس الوقت مراعاة المصالح الاجتماعية لأكثرية السكان للاحتفاظ بولائهم للنظام تماثل محاولة "تربيع الدائرة". رغم التوافق الاستراتيجي الموثق في برنامج الحكومة الائتلافية الالمانية اصبحت الحكومة هدفا لهجوم شامل من الاعلام قاطبة بفعل التناقض في التكتيك والذي أدي الي درجة من الشلل ولوصفها بانها "حكومة لا تحكم". وبسبب التصلب الايديولوجي الذي يتسم به المحافظون والاحرار في ايمانهم بحتمية "اقتصادات السوق الحر" تهربت الحكومة منذ قيامها من الاجابة عن سؤال: من سيدفع فاتورة الازمة الاقتصادية؟ وانتظرت الحكومة حتي اعلان نتائج المعركة الانتخابية في اكبر ولايات المانيا (شمال الراين وفيستفالين). وبعدها انفضح ما توقعته النقابات واحزاب المعارضة واعلنت حكومة ميركيل برنامجا تقشفيا يعني القاء اعباء الازمة علي كاهل العاملين. وبدلا من الزام البنوك التي تم انقاذها بدعمها بنحو 500 مليار يورو تضمنها وتتحملها الدولة، أي في النهاية دافعي الضرائب.. بدلا من الزامها بالمشاركة في تحمل الخسائر التي سببتها الازمة خاصة بعد ان انتعشت وعادت لتكديس الارباح.. بدلا من وقف المضاربات وزيادة الضرائب علي الاثرياء أقرت الحكومة برنامجا تقشفيا لتقليص الانفاق بنحو 80 مليار يورو منها نحو 30 مليار من الانفاق الاجتماعي. النهج المضلل لحزب الاحرار والذي يقوم علي مواصلة السياسات النيوليبرالية بلا مساومة (وبشكل خاص الادعاء بأن تخفيض الضرائب علي الاثرياء سينعش الاقتصاد، حتي في زمن الخزينة الخاوية)، وهو الشعار الذي حصد به الاحرار 15 بالمائة من الاصوات في الانتخابات العامة منذ عشرة اشهر، وبذلك حلوا مكان الديمقرطيين الاجتماعيين في حكومة ميركل .. هذا النهج واجه مقاومة ليس من المعارضة علي اختلاف الوانها فحسب بل ايضا من داخل الحزب الديمقراطي المسيحي الحريص علي صورته كحزب "شعبي" ليتجنب خسارة اغلبيته في الولايات والمحليات. خيبة أمل ودفع الحزب الديمقراطي المسيحي ثمنا غاليا تمثل في خسائر انتخابية اخرجته من الحكم في ولاية شمال الراين وفيستفاليا، وتضاءلت شعبيته في معظم الولايات وفقد التحالف الحاكم اغلبيته في مجلس الولايات (البرلمان الموازي للبوندستاج) والذي تحتاجه الحكومة لاقرار القوانين. اما حزب الاحرار بقيادة وزير الخارجية فيسترفيله فقد حصل في الاستطلاعات 5 بالمائة فقط بعد ان اعطاه الناخبون 15 بالمائة في العام الماضي. المعارضة الواسعة لسياسات حكومة المحافظين والليبراليين لم تتحول بعد الي حركة جماهيرية في الشارع وحسب تفسير الاعلام الالماني كان السبب هو انشغال الناس ببطولة العالم لكرة القدم والتي صورها الاعلام وكأنها "أم المعارك" وتتبعها ملايين الالمان آملين ان يفوز فريقهم القوي بالبطولة ولكن خاب أملهم. والعامل الثاني المعرقل لاتساع المقاومة المجتمعية للنهج النيوليبرالي المدمر هو سياسة الحزب الديمقراطي الاجتماعي الذي لا يتوقف عن امساك العصي من الوسط. فهو مسئول عن اكبر الهجمات علي حقوق العاملين ومستوي معيشتهم اثناء حكم المستشار شرودر. ولم يحسم الحزب موقفه تماما من الدخول كشريك اصغر في حكومة يقودها المحافظون، ولا زال علي موقفه المتردد من عدد من المطالب الرئيسية للجماهير والنقابات منها مثلا العودة عن قانون شارك في اصداره وهو تمديد سن التقاعد حتي سن ال67 وكان 65، بما يعني فعليا تقليص المعاشات. ورفض الديمقراطيين الاجتماعيين للاشتراك مع حزب اليسار في حكومات ائتلافية كلفه خسارة الحكم في عدد من الولايات. حتي حزب الخضر الذي يصل حسب استطلاعات الرأي الي 17 بالمئة من الاصوات لم يقطع شعرة معاوية مع المحافظين ومن الواضح ان فكرة احتلالهم موقع الاحرار في حكومة مشتركة مع المحافظين سواء في الولايات او علي المستوي الاتحادي لا زالت تدغدغهم رغم ان ذلك يعني تخليهم عن مبادئ جذبت لهم الجماهير. انحسار نفوذ اليمين هو الذي زاد من شعبية المعارضة الديمقراطية الاجتماعية والخضر. ولكن كثيرا من الناس لم ينسوا ان هذين الحزبين عندما كانا في مقاعد الحكم طبقا ذات السياسة التي يعارضونها الآن. المانيا في انتظار خريف ساخن. بعد ان طفح الكيل تطلق نقابات المانية وقواعد شعبية منظمة في جمعيات المجتمع المدني اشارت إلي عن عزمها علي عدم الارتكان للأحزاب المترددة. وشعار المظاهرات التي رفعها عشرات آلآلاف في الربيع "لن ندفع فاتورة ازمتكم" لا زال جاهزا.