أحمد الشرع: تقسيم سوريا مستحيل.. ومن يطالب به حالم وجاهل    مصرع شابين وإصابة آخر في حادث انقلاب دراجة بخارية بأسوان    أبطال واقعة "الليلة بكام"، قرار جديد ضد المتهمين بمطاردة طبيبة وأسرتها بالشرقية    موعد ومكان تشييع جنازة مدير التصوير تيمور تيمور ويسرا تعتذر عن عدم الحضور    8 ورش فنية في مهرجان القاهرة التجريبي بينها فعاليات بالمحافظات    الزمالك يكشف تفاصيل إصابة دونجا... وفحوصات جديدة لتحديد موقفه من التدريبات    عمرو الحديدي: مكي قدم مباراة كبيرة أمام الزمالك وناصر ماهر لا يصلح لمركز الجناح    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في عطلة الصاغة الأسبوعية الأحد 17 أغسطس 2025    منافسة بنكية ساخنة على رسوم تقسيط المشتريات تزامنًا مع فصل الصيف    في تبادل إطلاق النيران.. مصرع تاجر مخدرات بقنا    رابط نتيجة تقليل الاغتراب.. موعد بدء تنسيق المرحلة الثالثة 2025 والكليات والمعاهد المتاحة فور اعتمادها    بعد قمة ألاسكا.. الاتحاد الأوروبي يطرح مبادرة لعقد لقاء ثلاثي    خالد سليم يعانق وجدان الجمهور بصوته في الأمسية الثانية من فعاليات الدورة 33 لمهرجان القلعة (صور)    وكيل صحة سوهاج يحيل طبيبا وممرضا بمستشفى طما المركزى للتحقيق    رئيس جامعة المنيا يبحث التعاون الأكاديمي مع المستشار الثقافي لسفارة البحرين    إزالة تعديات على الشوارع بالخارجة.. والتنفيذ على نفقة المخالف| صور    الداخلية تكشف حقيقة مشاجرة أمام قرية سياحية بمطروح    «بأمان».. مبادرات وطنية لتوعية الأهالي بمخاطر استخدام الأطفال للإنترنت    "لسه بيتعرف".. أيمن يونس يعلق على أداء يانيك فيريرا في مباارة الزمالك والمقاولون    ملف يلا كورة.. تعثر الزمالك.. قرار فيفا ضد الأهلي.. وإصابة بن رمضان    سلة - باترك جاردنر – سعداء بما حققه منتخب مصر حتى الآن.. ويجب أن نركز في ربع النهائي    عمرو محمود ياسين يكشف تفاصيل رحيل تيمور تيمور: «الأب الذي ضحى بحياته من أجل ابنه»    أحمد موسى: قطيع الإخوان هربوا من أمام السفارة المصرية ب هولندا (فيديو)    لأول مرة بجامعة المنيا.. إصدار 20 شهادة معايرة للأجهزة الطبية بمستشفى الكبد والجهاز الهضمي    انخفاض الكندوز 26 جنيهًا، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    أول تعليق من فيريرا بعد تعادل الزمالك والمقاولون العرب    نشرة التوك شو| لجان حصر وحدات الإيجار القديم تبدأ عملها.. واستراتيجية جديدة للحد من المخالفات المرورية    تعرف على مكان دفن مدير التصوير الراحل تيمور تيمور    يسرا تنعى تيمور تيمور بكلمات مؤثرة: "مش قادرة أوصف وجعي"    الآلاف يشيعون «تقادم النقشبندي» شيخ المصالحات في الصعيد    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية قبل بداية تعاملات الأحد 17 أغسطس 2025    أسباب وطرق علاج الصداع الناتج عن الفك    «صحة مطروح» مستشفيات المحافظة قدمت 43191 خدمة طبية وأجرت 199 عملية جراحية خلال أسبوع    أول يوم «ملاحق الثانوية»: تداول امتحانات «العربي» و«الدين» على «جروبات الغش الإلكتروني»    في أقل من شهر.. الداخلية تضبط قضايا غسل أموال ب385 مليون جنيه من المخدرات والسلاح والتيك توك    توقعات الأبراج حظك اليوم الأحد 17 أغسطس 2025.. مفاجآت الحب والمال والعمل لكل برج    شهداء ومصابون في غارة للاحتلال وسط قطاع غزة    تعليق مثير فليك بعد فوز برشلونة على مايوركا    أبرز تصريحات الرئيس السيسي حول الأداء المالي والاقتصادي لعام 2024/2025    المصرية للاتصالات تنجح في إنزال الكابل البحري "كورال بريدج" بطابا لأول مرة لربط مصر والأردن.. صور    «أوحش من كدا إيه؟».. خالد الغندور يعلق على أداء الزمالك أمام المقاولون    تصاعد الغضب في إسرائيل.. مظاهرات وإضراب عام للمطالبة بإنهاء الحرب    كيف تتعاملين مع الصحة النفسية للطفل ومواجهة مشكلاتها ؟    "عربي مكسر".. بودكاست على تليفزيون اليوم السابع مع باسم فؤاد.. فيديو    يسري جبر يوضح ضوابط أكل الصيد في ضوء حديث النبي صلى الله عليه وسلم    عاوزه ألبس الحجاب ولكني مترددة؟.. أمين الفتوى يجيب    هل يجوز إخراج الزكاة في بناء المساجد؟.. أمين الفتوى يجيب    بريطانيا تحاكم عشرات الأشخاص لدعمهم حركة «فلسطين أكشن»    مسؤول مخابرات إسرائيلى: قتل 50 ألف فلسطينى كان ضروريًا لردع الأجيال القادمة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة المولد النبوي 2025 في مصر فلكيًا للموظفين والبنوك (تفاصيل)    «زي النهارده».. وفاة البابا كيرلس الخامس 17 أغسطس 1927    باختصار.. أهم الأخبار العالمية والعربية حتى منتصف الليل.. الاحتلال يقيم خيام إيواء لسكان مدينة غزة لنقلهم للجنوب.. مظاهرات فى تل أبيب تطالب بإبرام صفقة تبادل مع حماس.. وميلانيا ترامب ترسل رسالة شخصية إلى بوتين    حزن ودعوات| المئات يشيعون جثمان «شهيد العلم» في قنا    القائد العام للقوات المسلحة: المقاتل المصري أثبت جدارته لصون مقدرات الوطن وحماية حدوده    وزير الأوقاف: مسابقة "دولة التلاوة" لاكتشاف أصوات ذهبية تبهر العالم بتلاوة القرآن الكريم    الشيخ خالد الجندي: الإسلام دين شامل ينظم شؤون الدنيا والآخرة ولا يترك الإنسان للفوضى    الإصلاح والنهضة يواصل تلقي طلبات الترشح لعضوية مجلس النواب عبر استمارة إلكترونية    وزير الري يتابع موقف التعامل مع الأمطار التي تساقطت على جنوب سيناء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. رفعت السعيد يكتب : ورحل عريان نصيف
نشر في الأهالي يوم 25 - 06 - 2013

«إنهم يرحلون، واحدا بعد الآخر يرحلون، وعندما لا يبقي إلا أنا.. فأكون الخطوة القادمة».
قبل رحيله بأيام كانت مكالمة تليفونية عاصفة، فقد سئم والمناخ العام الكئيب زاده سأما، والعلاج لا يثمر، والألم يتصاعد وطموحاته لم تزل تدفعه يتصل يتواصل يتابع يكتب، يقترح ولكن وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام، كانت المكالمة عاصمة أسأله عن صحته يسألني كم توقيع تمرد جمعنا، أرجوه أن يهتم بالعلاج يرجوني الاستعداد الجيد لثلاثين يونيو.. وصحتك يا عريان يجيب يا سيدي مش مهم دلوقت وبعد أن استمع إلي ما أراحه من معلومات رحل.
ونبدأ من البداية..
الأبوان كانا يعانيان مرارة فقد أطفالهما، يموتون وهم رضعا الواحد تلو الآخر أربعة ذكور وثلاث إناث، يموتون دون سبب واضح ودون مرض معلوم، عجز الطب ولم يبق أمام الأبوين سوي الرضوخ للأوهام باتقاء الحسد، وعندما جاءهما طفل ثامن أسمياه عريان، وفوق هذا ألبساه ثوبا من الخيش لعله يثير شفقة الجيران وليس حسدهم.
الأسرة كانت من الأثرياء، ويتداول الأبناء كيف أن الجد كان يمتلك عزبة كبيرة أسميت علي اسمه «عزبة أبوموسي» والأب كان نصيبه من الميراث أربعين فدانا، إيرادها يكفي ويزيد، ولهذا أراح نفسه من أي إرهاق، فاكتفي من التعليم بالسنة الرابعة الابتدائية، ومن السياسة بتأييد أي حكومة، ومن المواقف والآراء ما تنشره الأهرام فهي بالطبع تفهم أكثر من الجميع، والطفل عريان ما أن شب عن الطوق حتي خلع الخيش وتمتع بحياة شبه مرفهة، لكن ثمة شيء كان يوخزه دائما لعله ضمير يقظ، أو أفكار مسيحية ترسخ بعضها في وجدانه.. وتؤرقه أسئلة مثل لماذا يعيش الفقراء في هذا البؤس بينما أحبهم المسيح وعطف عليهم؟ ولماذا هم جائعون ونحن نتمتع بكل شيء، أمه حاولت إقناعه بأن «دي حكمة ربنا» ولم يقتنع، والأب حاول إقناعه بأنه لا يظلم أحدا، وأتي له بأحد المستأجرين ليقول له «يا سي عريان إحنا عايشين في خيركم، والفتي العنيد لا يقتنع ولا يكف عن تأنيب والديه فيأخذه الأب إلي أبونا متي راعي كنيسة بسيون الذي يقول له «يا ابني لا تعترض علي حكمة ربنا» لم يقتنع عريان وقرر أن يرد علي هذا التمييز بطريقته الخاصة، فالفقراء لا يأكلون اللحم ولهذا هو لن يأكل لحما، ولا يتعلمون في المدرسة ولهذا هو لن يذهب إلي المدرسة ولا يلبسون ملابس جديدة في العيد ولهذا رفض ملابس العيد الجديدة، الأب خبط كفا بكف «يعني يا رب الولد اللي يعيش يتجنن، لكن عريان لم يكن مجنونا كان فقط رافضا للخضوع لمبدأ التمييز بين من يملكون ومن لا يملكون، وبعد محايلات من أبونا متي اقتنع بالذهاب إلي المدرسة، وإن ظل رافضا للأطعمة التي يتميز بها الأغنياء، لكن الحيرة تظل تغلف كل تصرفاته بحثا عن مخرج، وأخيرا في يوم من أيام فبراير 1951 التقط من عند بائع الصحف جريدة تحمل عنوانا صارخا اسمها «الاشتراكية» ويقول «وجدت فيها الإجابات فالنضال ضد الفقر عمل سياسي جماعي وليس عملا فرديا، باختصار وجدت نفسي، كانت الكلمات ساخنة بل شديدة السخونة ومحشوة بطلقات سريعة مثل العدالة – الحرية – الثورة، حقوق الشعب، وأسرعت لأنضم إلي الحزب الاشتراكي»، واتسعت دائرة قراءاته للصحف الصاخبة في هذه الفترة الساخنة بالحماس الثوري والوطني.. مثل الجمهور المصري – الكاتب – الملايين – روز اليوسف – الواجب ثم إلي كتابات سلامة موسي وترجمات لروايات مكسيم جوردكي وبالسليقة، وربما بسبب الضمير المسيحي الحساس اكتشف أن فكرة اسمها الماركسية هي الأكثر قربا لتحقيق العدل، وبدأ يقرأ ليلتقط كلمات وعبارات أعتقد أنها هي الماركسية، وتعرف عليه عدد من الطلاب في طنطا الثانوية الحديثة واعتقدوا أنه ممثل للشيوعيين لكنه كان شيوعيا من منازلهم.
وفي المدرسة تزامل مع حسين عبدالرازق وعندما قامت ثورة يوليو أصدرا معا مجلة أسمياها العهد الجديد لكنه تحمس ضد قادة الثورة لأنهم استبقوا 14 معتقلا من الشيوعيين، وتوقفت المجلة، وتنتهي مرحلة الدراسة الثانوية وإلي الإسكندرية وفي كلية الحقوق كان الضوء الماركسي المبهر في انتظاره فهناك فاروق أبوعيسي «الذي أصبح فيما بعد قياديا في الحزب الشيوعي السوداني وأصبح رئيسا لاتحاد المحامين العرب» وهناك أيضا عبدالفتاح موافي الذي كان آتيا من المنصورة محملا بتراث نضال شيوعي عريق وفي 5 أكتوبر 1953 دعي إلي أول اجتماع شيوعي «لم يزل يذكر هذا اليوم ويعتبره عيد ميلاده الحقيقي» تدفقت انهار من الضوء المبهر.. وأصبح عريان عضوا في الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني في فترة كانت حدتو فيها مقبلة علي معركة ضارية مع حركة الجيش، ويخوض عريان معارك حدتو بالإسكندرية في فترة بالغة الصعوبة حيث عصف الأمن بعدد كبير من قيادات التنظيم بالمدينة في قضية شهيرة، ويواصل عريان حتي عام 1956 وتكون الأيام المجيدة، ومن الإسكندرية يعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس وتنفجر كل الطاقات تأييدا ويكون العدوان الثلاثي، وتقرر لجنة كليو «الاسم السري لجنة محافظة الإسكندرية وهو مشتق من كلمة كليوباترا» الدعوة إلي إقامة معسكر للتدريب علي المقاومة الشعبية وتكوين جيش شعبي للاشتراك في مواجهة العدوان، واختارت اللجنة ثلاثة رفاق للقيام بهذه المهمة، سعد الساعي وحمدي مرسي وعريان، وبهذا التكليف أصبح عريان شخصا آخر إتقد حماسا وثورية وتدفقت كل طاقاته لإنجاح هذه المهمة.
الثلاثة ذهبوا لمقابلة قائد المنطقة الشمالية اللواء عاطف نصار، السيد اللواء تحمس لحماسهم أو ربما تظاهر بالحماس لأنه كان يرتب أمرا آخر، وأقيم معسكر التدريب في أرض سبورتنج، الجميع كانوا متحمسين هو كان الأكثر حماسا وتفانيا في التدريب بما منحه الترقية إلي رتبة وكيل إمباشي فازداد حماسا، كانوا يستعدون بحماس للسفر إلي الجبهة لمواجهة العدوان، ويزداد حماسهم إذ تأتيهم أنباء رفاق تسللوا إلي بورسعيد حيث المواجهة الفعلية، وأنباء أخري عن رفيقات ذهبن إلي خط المواجهة في أبوصوير، اجتمعت المجموعة الحزبية وقررت أن التدريب الذي حصلوا عليه كاف تماما وأنهم مستعدون للسفر فورا، ولأنه كان الأعلي رتبة «وكيل إمباشي» كلفوه بأن يتصل بقيادة المعسكر ليعرض عليها طلبهم، لكن ثمة أشياء لم تكن معلومة لهم، فاللواء عاطف نصار الذي احتضنهم وشجعهم اتهم بالتحضير لانقلاب عسكري ومن ثم وضع كل من تحمس لهم في دائرة الشك ولا بأس من البحث عن أدلة اتهام إضافية باتهامه بالتعاون مع الشيوعيين في تدبير الانقلاب، ذهب عريان ليعرض طلب اللجنة الحزبية في الوقت غير الملائم تماما، وفوجئ بانفجار الضابط في وجهه، وبالقبض عليه وعزله عن رتبته وإرساله إلي السجن الحربي مصحوبا بلفافة كبيرة عرف بعد ذلك أنها متفجرات وأن التهمة التي أعدت له هي أنه كان يستعد لتفجير المعسكر.. وفي السجن الحربي قال له الضابط هل أنت شيوعي؟ قال نعم، واسمك إيه؟ فأجاب عريان وضحك الضابط وقال خلاص خليك عريان، وتركه عاريا تماما وسط زنزانة مليئة بالماء المثلج.
ويواصل عريان حكايته..
خرجت من السجن الحربي بعد أن حكم علي بالاعدام ذلك بعد اتصال الرفاق بعلي صبري مدير مكتب الرئيس، الرئيس ألغي الحكم. أما أنا فكنت في حيرة كئيبة هي انعكاس لحالة التحالف مع حليف يكرهك. ادهشني بعد خروجي أن الرفيق المسئول في لحظة مقابلته لي وبدلا من أن يهنئني علي صمودي في وجه التعذيب الوحشي وعدم اعترافي علي الرفاق، أنه سألني سؤالا غير لائق. هل صرخت يا رفيق وهم يعذبونك ؟ فقلت ببساطة نعم. فصرخ وهو يبرم شاربه بكبرياء غلط يا رفيق فالمناضل لا يصرخ مهما عذبوه».
والحقيقة أن فترة السجن الحربي كانت شاقة جدا.. وكانت التهمة التي واجهني بها المحقق العسكري أنني كنت أنوي تفجير معسكر التدريب في سبورتنح بهدف احداث فوضي يستغلها الشيوعيون ويركبون الموجة (لم يذكروا اسم عاطف نصار ومحاولته للانقلاب لأن القضية لم تكن قد أعلن عنها بعد) نفي عريان التهمة. ضربوه. عذبوه تعذيبا وحشيا. سألوه هل أنت شيوعي؟ فأجاب افتخر بأنني شيوعي. من معك؟ لا أحد. أنت متهم بمحاولة تفجير المعسكر. لم يحدث. ما دليلي؟ دليل أني شيوعي. فزاد التعذيب». نزعوا كل ملابسه وتركوه عريانا في زنزانة مملوءة بالماء. وأخيرا واجهوه بمجلس عسكري أنهي سؤاله في دقائق وأصدر الحكم «الإعدام رميا بالرصاص» في تهمة الخيانة العظمي. أشعل هذا الحكم المجنون حماس قيادة الحزب، كثفوا اتصالاتهم. احتجوا. هددوا وأخيرا ابلغهم مدير مكتب الرئيس عبد الناصر علي صبري أن الرئيس وبصفته حاكما عسكريا ألغي الحكم. وخرج عريان من هذه المحنة وهو أكثر اصرارا وأكثر حماسا. ترك الكلية وتفرغ محترفا. وانغمس حتي هامته في العمل الحزبي، وفي هذه الفترة الشديدة الارتباك يتحد الشيوعيون في حزب واحد. ثم ينقسمون وفي أول يناير 1959. ويهرب عريان. والهروب سهل للغاية، أن تختبئ في مكان ما، ثم تنتظر. لكن عريان هرب وواصل نضالا ملتهبا فقبض عليه، وأرسل إلي سجن أبو زعبل حيث معسكر التعذيب الناصري الذي اقترب من معسكرات النازي. هو كان قد تدرب علي احتمال التعذيب، ودهش الجميع، رفاقه والمتوحشون الذين يمارسون التعذيب من احتمال هذا الشخص النحيل كعصا رفيعة والذي لا يزيد وزنه علي 47 كيلو للتعذيب صامدا وأحيانا ايضا مبتسما. ويقول عريان في حوار معي «فيما بعد وفي جلسة سمر في سجن الواحات لقنني صلاح حافظ درسا هو واحد من أسرار الحياة، فالإنسان حين يتدرب علي المقاومة نفسيا، فإن جسده- أيا كان ضعفه الجسماني- يحترم هذه المقاومة ويفرز له كميات إضافية من الادرنالين تمكنه من المزيد من المقاومة والاحتمال. وبالفعل ادركت أن تصميمي علي الاحتمال جعلني احتمل تعذيبا لا يحتمل. ثم تقرر احالتهم إلي المحاكمة العسكرية أمام الفريق هلال عبد الله هلال قائد سلاح المدفعية لكن ضباط البوليس السياسي وبدهاء شديد وضعوه عمدا هو وسعد الساعي وخليل الآسي ضمن قضية الفريق الآخر. كانت مجموعة الحزب الشيوعي- حدتو لم تزل تتحدث عن تأييدها لمنجزات عبدالناصر وأن طالبت بالديمقراطية بينما الفريق الآخر كان يعارض عبد الناصر بشدة. وتوقع رجال البوليس السياسي أن يتحدث عريان ورفيقاه أمام القاضي الشرس عن تأييدهم لعبد الناصر فيضعوا رفاق المجموعة الأخري تحت مقصلة الفريق الشرس اتفقوا معا علي إفساد مخطط الأمن فقد تغلب الضمير والعقل وقرروا ألا يتحدثوا عن تأييدهم لعبد الناصر ولا عن خلافاتهم مع الرفاق الآخرين، غضب رجال الأمن لإفساد مخططهم. ولعل الفريق كان شريكا في إعداد هذا الكمين وانعكس هذا الغضب في حكم شديد القسوة وهو عشر سنوات اشغال شاقة. ويكون الافراج الجماعي وبعدها يكون القرار الصاعق بحل الحزب هو عارض الحل. وقاوم كثيرا ثم رضخ لقرار الأغلبية، وتتوالي فترات السجن رغم ذلك وتتوالي معها كوارث عائلية.
ففي فترة السجن 59-1964 فقد شقيقته الشابة وفيما كان مسجونا بعد انتفاضة 1977 فقد والدته وفي فترة سجن أخري في 1981 فقد والده. وفيما كان مسجونا عام 1989 أتاه نبأ أن ابنه الاكبر محب فقد ساقه في حادث بشع.
أي طاقة احتمال احتاجها عريان ليحتمل ذلك . ذات يوم وجدته حزينا قلت له حتي الجبال تتهاوي أحيانا لكنك تحتمل أكثر من الجبال. نظر إلي صامتا ومضي صامدا. ثم تكون كارثة اكبر عندما يفقد ابنه محب. ويمضي عريان متكئا علي عصاه صامدا شامخا مصمما علي المضي أماما في ذات الطريق. يقول لي في رسالته «كان قرار الحل ضربة قاصمة لي لكنه مضي ليخترع آليات وأدوات للنضال وللالتحام بالجماهير، وغاص في عمل جماهيري متنوع الاتجاهات. «جبهة القوي الوطنية بالغربية» و«نادي الثلاثاء الأدبي» و«رابطة الحقوقيين بالغربية»، و«نادي الكتاب، نادي المسرح».. اعتاد دوما علي الإبداع النضالي ثم فاجأنا بالإبداع الأدبي فكتب مسرحيات وحصل علي شهادة في التأليف المسرحي المتميز، وكتب قصصا وحصل علي الجائزة الأول في مسابقة القصة القصيرة. وإذ يأتي التجمع يكون أول الآتين إلينا. ويمنح عبر نضاله التجمعي العمل الفلاحي جهدا كبيرا ويتأسس اتحاد الفلاحين في 30 ابريل 1983 ليحقق عريان واحدة من أهم إنجازاته.
وتمضي الأيام. ويبقي عريان كعصا ممشوقة القوام رافعة الرأس صامدة كسنديانة تهزأ بالريح يمضي كعصا تتكئ علي عصا مثلها.. ضاربا لنا جميعا المثل والقدوة.
عزيزي عريان .. إلي لقاء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.