ولأن «كل صوت هو حقيقة» كما يقول بطل هذه السطور، كان صوت محمود درويش حقيقة كالأمل لا تحتمل الشك، فكلماته تسافر في الروح، معبرة عن الحياة، معلنة أننا نحبها إذا ما استطعنا إليها سبيلا، هو إنسان «يحك اللفظة باللفظة لتقدح إيقاعا يساعده علي المشي بخفة شاب»، فكان مناضلا بدرجة شاعر، ورغم إعلانه الدائم عن سفره داخل الشعر لكنه لم يرد لهذه القصيدة أن تنتهي، وحين أنهي حياته في «حضرة الغياب» منتصرا قال: مجازا أقول انتصرت.. مجازا أقول خسرت، محمود درويش، تجيء ذكري رحيله الثانية حاملة معها قصائده الساكنة في أرواحنا وتلامسنا، برقة وعمق كأنها «أثر الفراشة». هو الابن الثاني لعائلة فلسطينية مكونة من خمسة أبناء وثلاث بنات، ولد عام 1941 في قرية فلسطينية مدمرة «البروة» توجد اليوم مكانها قري «أحيهود» الصهيونية، وتقع علي بعد 5.12كم شرق ساحل سهل عكا، وفي 1948 لجأ إلي لبنان وهو في السابعة من عمره ثم تسلل إلي فلسطين مرة أخري بعد عام وبقي بقرية دير الائد.. وأكمل تعليمه متخفيا خوفا من تعرضه للنفي فظل محروما من الجنسية الفلسطينية. تنقل في الكتابة عبر كثير من المجلات مثل «الجديد» و«الاتحاد» وجميعها تابعة للحزب الشيوعي، اعتقل أكثر من مرة علي يد قوات الاحتلال الإسرائيلية بسبب نشاطه السياسي وأقواله وآرائه، وشغل منصب رئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين، وأصدر مجلة «الكرمل»، أقام في باريس قبل عودته إلي وطنه واستقراره هناك بعد سماح الكنيست له بذلك أثناء زيارة أمه. القضية والشعر يقول عنه الروائي خيري شلبي انطلقت من داخله قضية عادلة آمن بها واستطاع توصيلها إلي كل الناس، وهي قضية من الأساس تحمل تعاطفا كبيرا من الجميع، وبالتالي اعتبر الشعراء العرب درويش المعبر الحقيقي عنها، ويصفه شلبي بالشاعر الموهوب وأنه خلق ليكون شاعرا فلديه خصوبة خيال جعلته يخلق معادلات شعرية جديدة ويسهم بقدر كبير في تجديد الصورة الشعرية وتحديثها، خاصة أنها منطلقة لديه من إحساس قوي، ولهذا يؤكد شلبي أن تعلق الشعراء الشباب بدرويش جاء من كونه جسد نموذجا مجددا في الشعر. شبه شلبي محمود درويش بالمطربة فيروز في أن كليهما عبر عن القضية الفلسطينية بشكل حداثي، ويفسر شلبي اقتراب درويش الدائم في قصائده من الموت بأن مفردة «الموت» كانت إحدي مفردات حياة أسرته اليومية، لهذا تخيل أنه إذا لم يمت موتا صحيا سيموت موتة محارب، لهذا نراه يخاطب الموت قائلا «أيها الموت انتظرني خارج الأرض.. انتظرني في بلادك، ريثما أنهي حديثا عابرا مع ما تبقي من حياتي». منزله بالأردن أما خيري منصور الشاعر والكاتب الفلسطيني الأردني والصديق الأقرب للشاعر الراحل فحدثنا من الأردن وهو ينظر من شرفته التي تطل علي منزل محمود درويش هناك واصفا إياه «أنه عجينة شعرية بشرية» وأنه أكثر شاعر يشبه نفسه مؤكدا أنه لا ينساه إطلاقا، وعندما يستمع إلي اسمه لا يعتقد بموته بل يعتقد أنه سيحدثه الآن هاتفيا أو أن شخصا ما يسأل عن صحته. أما الروائي المصري يوسف القعيد والذي التقي درويش أكثر من مرة يقول: إن بدايات درويش المرتبطة بقضيته الفلسطينية لفتت إليه الانتباه ولكنه ما لبث أن تطور في شعره واتجه إلي الإنسانيات والتصوف فأصبحت قضيته جزءا من رؤيته الكونية للأشياء ليبقي شعره الإنساني في نفوس قرائه، وفي نفس الوقت يري القعيد أن محمود درويش لم يتكئ علي القضية الفلسطينية باعتبارها جواز مروره بل جعل نفسه صاحب مشروع مختلف ميزه عن شعراء كثيرين حيث ثقف نفسه ثقافة عربية رفيعة، وأجاد اللغة العبرية أيضا إجادة تامة والفرنسية وتتبع قضيته الفلسطينية وارتبط بها، ويعتبر القعيد ما كتبه درويش من نثر في أحيان كثيرة أجمل من شعره وهو ما لا يلاحظه الكثيرون كما يقول. محبة الأجيال الجديدة وفي نفس الوقت نجد جيدا كاملا من الشعراء الشباب يرتبط بمحمود درويش ارتباطات تحمل مستويات مختلفة سواء ارتباط بقدوة أو مثل أعلي في مجال الشعر أو حتي ارتباطا نفسيا احتفالا بذكراه السنوية داخل ساقية عبدالمنعم الصاوي علي نغمات الموسيقي، فيقول محمد منصور أحد هؤلاء الشعراء عن درويش وتأثره به إن أي شاعر شاب قد ينتقي خطا رئيسيا ليكمله مع الاعتراف بخطوط أخري لذا فهو يفضل امرؤ القيس مرورا بالمتنبي وأبي تمام وحتي أمل دنقل ودرويش، ويعتبر منصور قصيدة درويش مكملة للقصيدة العربية بعد أمل دنقل، فهو الشاعر الحاضر داخل الشعر العربي، وهو ما لا يمنع عالميته، ويعتبر تفرد درويش نتيجة استفادته من النصوص الأدبية المطروحة فخلق داخل قصيدته الملحمة والرواية ليصنع النثر والحوار الداخلي والخارجي ويبرهن للجميع علي قدرة الشاعر علي احتواء جميع الأنواع الأدبية ليتجاوز عصره. ويري الشاعر مصطفي علي أحد المشاركين في أمسية درويش بالصاوي أن محمود درويش لم يؤثر فقط في الشعراء الشباب ولكن أثر في الكبار أيضا، فهو شاعر استثنائي بسبب موهبته الكبيرة والفذة وارتباطه بقضية لم تحل فأصبح شاعرها الأول. ويضيف مصطفي أن درويش كتب الشعر الزاعق في البداية وبعد فترة تمرد علي هذا الشعر ليدخل مرحلة جديدة ويقدم «الشعر الصافي» الخالي من الشوائب علي حد تعبيره غير مرتبط بزمن ليصبح شعرا خالدا، لهذا يري مصطفي أنه تأثر هو وجيله بدرويش لكونه مثالا ونموذجا يحتذي به بجانب كاريزماه التي تكاد تكون غير متكررة لدي الكثيرين.