عندما قرأتُ قصيدة (مقتل كليب) التي أخذت اسم (لاتُصالح) من مقطعها الأول ، تساءلتُ كيف لشاعر أن يتبني العنف ، بينما الإبداع يسعي لترسيخ التحضر؟ وتضخم التساؤل مع ولع الثقافة السائدة بهذه القصيدة ، كستارمن الدخان يعمي عن حقيقة أنّ مأساة الشعب الفلسطيني لن تُنهيها قصائد التحريض في طوباوية مريضة تنص علي (إما نحن أوهم) فإذا كانت مرجعية الشاعرمستمدة من التراث العربي (مقتل كليب) وأنّ الصلح لن يتم إلاّبعودة القتيل إلي الحياة (= طلب المستحيل) فإنّ الإسقاط علي قضية الفلسطينيين يعني عودة عقارب الزمن إلي عام تقسيم فلسطين ، أي إجراء عملية جراحية (إن جازالتعبير) في جسد الماضي ، فتتنازل إسرائيل عن كل انتصاراتها الساحقة ، ويعود الوضع كما كان قبل عام التقسيم (= عودة القتيل إلي الحياة) هنا يتبين أنّ الثقافة السائدة المولعة بالشعارات لم تُدرك التناقض الذي وقع فيه الشاعرعندما قال ((إنها الحرب/ قد تُثقل القلب/ لكن خلفك عارالعرب/ لاتُصالح/ ولاتتوخ الهرب) صحيح أنّ الهرب مرفوض ، ولكن إذا كان الفلسطينيون خلفهم (عارالعرب) فكيف يمكن أن يتخلصوا من هذا (العارالعربي) وهم ملتصقون ببعض التصاق الجنين بالمشيمة ؟ هذا السؤال واحد من أسئلة كثيرة مسكوت عنها في قصيدة الشاعر. كما أنّ القصيدة تمتليء بالصياغات التقريرية والبديهيات الطبيعية مثل قوله (أتري حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل تري؟) فما الجديد الذي أضافه الشاعرلوعي القاريء؟ فأي إنسان يعلم هذه البديهية. كما أنّ الشاعرانزلق وراء الصياغة الشاعرية متجاهلا أنّ الإنسان الحرىُدرك ويري بصيرته أكثرمما يري وىُدرك ببصره. وإذا كان الشاعر كتب ومضي (فهذه رؤيته وهذا حقه) فإنّ الكارثة تكمن في الثقافة السائدة المولعة بالإبداع أحادي النظروالذي يجترتراث العنف دون أفق إنساني يبتكرتصورات لمجتمع بشري أقل تعاسة وأكثرسعادة. وكما احتفت الثقافة السائدة بقصيدة (لا تصالح) سبق لها أن فعلت نفس الشيء مع قصيدة (إما أن نكون أولانكون) ل (علي أحمد باكثير) وفيها قال (لاصُلح ياقومي وإنْ طال المدي/ وإن أغارخصمنا وأنجدا/ وإن بغي وإن طغي وإن عدا) إلخ. الفساد الشعري هنا يكمن في توظيف جملة شكسبيرالفلسفية لأغراض السياسة وفوقها ديماجوجية فجة ، مثلها مثل فساد طلب عودة القتيل إلي الحياة. وفي كل الحالات يجد العقل الحرأنه أمام دوائرعبثية من اجترارالذهنية العربية التي تري (إما الكل أولا شيء) وهي ذهنية عبّرعنها شاعرعربي قديم (عمروبن كلثوم) في قوله ((وإنّا أناس لاتوسط بيننا/ لنا الصدردون العالمين أوالقبر) وقال أيضًا (لنا الدنيا ومن أمسي عليها / ونبطش حين نبطش قادرينا / طغاة ظالمون وما ظُلمنا / ونظلم حين نظلم بادئينا) أليست دائرة الثأرالجهنمية هي دعوة للانتحارالجماعي ، كما تفعل حماس التي تري أنّ بقاءها وحصولها علي أموال الشعوب العربية والإتحاد الأوروبي مرهون باستمرار شقاء الشعب الفلسطيني حتي ولو أدي الأمر إلي فنائه. وكان أ. عبدالرحمن الراشد علي حق عندما ذكر أنّ الرافضين لإطلاق سراح شاليط (الجندي الإسرائيلي) لايهمهم مأساة مليون فلسطيني ، لأنّ ذلك لو تم فلن يكون هناك حصار ومواجهات وقضية يرفعون قميصها كل يوم لأغراضهم الأخري (صحيفة الشرق الأوسط 1/6/2010ص13) ولعلّ نظرة إلي دواوين محمود درويش الأولي الخطابية ، ووقوعه في التناقض بين تحريرفلسطين وإدانته للشعب الإسباني الذي تحررمن مستعمريه ، كما في قصيدته الطويلة (أحد عشركوكبًا- علي آخرالمشهد الأندلسي) مقطع (الكمنجات) التي يقول فيها (الكمنجات تبكي مع الغجرالذاهبين إلي الأندلس/الكمنجات تبكي علي العرب الخارجين من الأندلس/ الكمنجات تبكي علي زمن ضائع لا يعود/ الكمنجات تبكي علي وطن ضائع قد يعود) إلخ ويصل به العنف اللفظي مداه في قصيدته (بطاقة هوية) حيث قال (سجّل برأس الصفحة الأولي/ أنا لا أكره الناس/ ولا أسطو علي أحد/ ولكني إذا ما جُعتُ/ آكل لحم مغتصبي) ولكنه عندما راجع نفسه وقرأ الواقع العربي بروح حيادية ، اكتشف وهم مقولة أنّ (العرب يساندون الشعب الفلسطيني) فكتب في قصيدة (أحمد الزعتر) : (وأحمد العربي يصعد كي يري حيفا / ويقفز/ أحمد الآن الرهينة/ تركتْ شوارعها المدينة / وأتتْ إليه/ لتقتله/ ومن الخليج إلي المحيط ، من المحيط إلي الخليج/ كانوا ىُعدون الجنازة/ وانتخاب المقصلة) ويرتفع وعيه أكثرفي قصيدته الطويلة (جدارية) إذْ كتب (باطل ، باطل الأباطيل.. باطل/ كل شيء علي البسيطة زائل / لاجديد إذن/ والزمن/ كان أمس/ سُدي في سُدي/ للولادة وقت / وللموت وقت/ وللصمت وقت/ وللنطق وقت/ وللحرب وقت/ وللصلح وقت) وفي دواوينه الأخيرة تتسع نظرته إلي الكون والوجود ، بلغة شاعرية جمعتْ بين الفلسفة والبُعد الإنساني فكتب ((كنتُ أحسب أنّ المكان يعرف/ بالأمهات ورائحة المريمية/ لاأحد/ قال لي إنّ هذا يسمي بلادًا/ وأنّ وراء البلاد حدودًا ، وأن وراء الحدود مكانًا يسمي شتاتًا ومنفي/ لنا ، لم أكن بعد في حاجة للهوية/ ... والهوية ؟ قلتُ/ فقال دفاع عن الذات/ إنّ الهوية بنت الولادة ، لكنها في النهاية إبداع صاحبها ، لاوراثة ماضٍ . أنا المتعدد/ في داخلي خارجي المتجدد/ يحب بلادًا ، ويرحل عنها (هل المستحيل بعيد؟) يحب الرحيل إلي أي شيء/ ففي السفرالحربين الثقافات / قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشري/ مقاعد كافة للجميع)) (مقاطع من ديوانه " كزهراللوزأوأبعد " دارنشررياض الريس 2005). وأعتقد أنّ الروائية والشاعرة سهيرالمصادفة عندما كتبت قصيدتها المعنونة (محمود درويش) كانت تعي تطورالمراحل الشعرية لهذا الشاعرالفلسطسني الكبير، إذ كتبت (من أظافرنا تهرب غابات/ بحار، أنهارغربة متوجة/ بنيران حامليها / تخرج من أنوفنا/ بدايات الصمود أمام شيخوخةٍ ما / فيخمد فينا وهج الأعضاء/ نخلع عن أجسادنا الرصاص/ نُضمّد خدوش موسيقي الجاز.. إلي أن تقول نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا) بهذه الصياغة الشاعرية أثبتت سهيرالمصادفة قدرتها علي قراءة شعرمحمود درويش في تحولاته ، إذ أنه في أعماله الأخيرة كان ينحو نحو أن (نخلع عن أجسادنا الرصاص) أي نبذ العنف، و(نُضمّد خدوش موسيقي الجاز) أي نحب الحياة ونرقص علي أنغام تلك الموسيقي الإفريقية الجميلة المنتشرة في أمريكا وأوروبا بينما نحن (المصريين) لا نمارسها. والممارسة هي تضميد جروح هذه الموسيقي. وكما قرأت سهيرالمصادفة شعرمحمود درويش ، قرأت شعرأمل دنقل في تحولاته فكتبت عنه قصيدة معنونة باسمه قالت فيها (يا لك من خائن/ لماذا لم تأت في موعدك ؟ لدي دم طازج/ ونصال لامعة/ وموسيقي تصلح/ لنومٍ طويلٍ هاديء) (قصيدتيها عن محمود درويش وأمل دنقل من ديوانها "فتاة تُجرب حتفها" دارالتلاقي للكتاب- ط 2عام 2009) بلغة شاعرية وبكلمات قليلة صاغت التضاد الجدلي بين (النصال اللامعة) و(الموسيقي الصالحة لنوم طويل هاديء) أي أنه لو اقترب من عالمها ، وذهب في موعده ، فربما كان يعيد النظرفي توجهاته الأيديولوجية ، لأنّ (النصال اللامعة) هي اجترارللموروث العربي القائم علي أفضلية السيف علي القلم ، أي أفضلية العنف علي التحضر، وهوالمعني الذي كتب عنه كثيرون من شعراء العرب ، وكان أبرزهم المتنبي الذي قال (حتي رجعتُ وأقلامي قوائل لي/ المجد للسيف.. ليس المجد للقلم) ولما دخل (معد المعز) مصرسأله ابن طباطا العلوي عن نسبه ، فجذب نصف سيفه من غمده وقال (هذا نسبي) (انظر بدائع الزهورفي وقائع الدهور- تأليف محمد بن أحمد بن إياس- هيئة الكتاب المصرية- عام 82ص 187) فإذا كان بعض الشعراء المعاصرين لنا يلوكون تراث الماضي القائم علي لغة الخطابة الحماسية كما قال المفكرالسعودي عبدالله القصيمي و(إن الإنسان العربي لم تتخلق فيه مواهب الإنسان المتحضر) (العرب ظاهرة صوتية- منشورات الجمل عام 2000ص 405) فهل يأتي يومٌ يكون فيه (المجد للقلم وليس للسيف)؟ أي تعظيم قيم التحضر لمواجهة خطاب العنف وآلياته ؟ سؤال أترك إجابته لعقل وضميرالثقافة السائدة في مصر.