شنصيبي اليوم من الكتابة رسالتان، إحداهما سوف أبدأ بها لأنها تتمة لما كتبته من قبل، والثانية سوف أختتم بها، احتراما لحق صاحبها في أن تكون كلماته بلا تعقيب من كلماتي، خاصة أنه كاتب وقاص وصاحب رأي لا يكتمه خشية خلاف، ولا يعلنه رجاء ضجة، ولا يتستر عليه تواطؤا مع أحدهم أو آحادهم، ولا يبوح ازدراءً لأحد، يؤمن عميقاً أن شبابه فيما يصرح به، وأن شيخوخته فيما يسكت عنه، وكلنا نشهد له بالشباب. 1- رسالة الشاعر إلي الكاتب من الشاعر عبد المنعم رمضان إلي الكاتب عبد المنعم رمضان. أرهقتني، وحرفت مزاجي، وجعلت أرضي بوراً، ورجالي جوفاً، ونسائي منحرفات، كأنك تعاقبني، ليتني أستطيع أن أنكر وجودك، ولكنك الوجه الذي أعرفه، الوجه الذي لا أستطيع أن أبرأ منه، أنا أبني السفن الغارقة وأنت تحرقها قبل أن تغرق، أرفع راياتي الخجول وأنت تطيح بها، كأنك النار، كأنك الريح، ومع ذلك أعترف أنني أحب أن أتذكر معك سعدي يوسف 1972، وأن أتفتت مثله: نبي يقاسمني شقتي، يسكن الغرفة المستطيلة، وكل صباح يشاركني قهوتي والحليب، وسر الليالي الطويلة، أري حول عينيه دائرتين من الزرقة الكامده، وكانت ملابسنا في الخزانة واحدة، كان يلبس يوماً قميصي، وألبس يوما قميصه، أحب أيضا أن أتذكر معك أمل دنقل 1983 وأن أتفتت: كان يسكن قلبي، وأسكن غرفته، نتقاسم نصف السرير ونصف الرغيف ونصف اللفافة والكتب المستعارة، كلاهما سعدي وأمل أخذني من يدي، كانت يد سعدي أقدم وأكثر بللاً، وأرضه مألوفة عنده وعندي، وكانت يد أمل منهكة ومريضة، وأرضه جديدة عنده وعندي، في أوراقه، أوراق الغرفة رقم 8، يتخلي أمل عن حنجرته الجماعيةفي سبيل حنجرة خاصة، يتخلي عن معبد اللغة في سبيل صحراء اللغة، قد يكون الشعر أشياء كثيرة لا حصر لها، أعتقد أن أحد هذه الأشياء غير إقامة الشاعر علي الأرض، هو إقامة الخاص في قلب العام، أو علي حافته، أو خارجه، أمل في أوراقه، لم يحاول أن يضع قدمه أعلي من رأس العالم، لم يحاول أن يضع رأسه أدني من قدم العالم، لم يقبل أن يكون امبراطورا ولا خادما، فضل أن يكون الشاعربعذاباته، حيرته حيرة شاعر، انقساماته انقسامات شاعر، يأسه يأس شاعر، كان يمكن لولا الموت الغادر، أن يمر أمل من غرفته، رقم 8، إلي بقية الغرف، ويكتب ما يليق بضياعه، يكتب الطيور والخيول ومحمود حسن إسماعيل وصقر قريش وصلاح الدين وابن نوح والزهور، لغة الغرفة رقم 8 لا تنبئ ولا تتنبأ، لا تخبر، ولا تدعي الاخفاء، لا توحي ولا تهدد، إنها فقط لغة عالية علي لسان طفل، واحد من جنودك يا سيدي، خبزه خبز ضيق، ماؤه بلّ ريق، والممات بعينيه كالمولد، واحد من جنودك يا سيدي. 2- رسالة طلعت رضوان لا تصالح ودوائر الثأر الجهنمية عندما قرأت قصيدة (مقتل كليب) التي أخذت اسم (لا تصالح) من مقطعها الأول تساءلت كيف لشاعر أن يتبني العنف، بينما الإبداع يسعي لترسيخ التحضر؟، وتضخم التساؤل مع ولع الثقافة السائدة بهذه القصيدة، كستار من الدخان يعمي عن حقيقة أن مأساة الشعب الفلسطيني لن تنهيها قصائد التحريض في طوباوية مريضة تنص علي (إما نحن أو هم) فإذا كانت مرجعية الشاعر مستمدة من التراث العربي (مقتل كليب) وأن الصلح لم يتم إلا بعودة القتيل إلي الحياة (طلب المستحيل) فإن الإسقاط علي قضية الفلسطينيين يعني عودة عقارب الزمن إلي عام تقسيم فلسطين، أي إجراء عملية جراحية (إن جاز التعبير) في جسد الماضي، فتتنازل إسرائيل عن كل انتصارتها الساحقة، ويعود الوضع كما كان قبل عام التقسيم (عودة القتيل إلي الحياة) هنا يتبين أن الثقافة السائدة المولعة بالشعارات لم تدرك التناقض الذي وقع فيه الشاعر عندما قال (إنها الحرب / قد تثقل القلب/ لكن خلفك عار العرب/ لا تصالح/ ولا تتوخي الهرب) صحيح أن الهرب مرفوض، ولكن إذا كان الفلسطينوين خلفهم (عار العرب) فكيف يمكن أن يتخلصوا من هذا (العار العربي) وهم ملتصقون بعضهم ببعض التصاق الجنين بالمشيمة؟، هذا السؤال واحد من أسئلة كثيرة مسكوت عنها في قصيدة الشاعر. كما أن القصيدة تمتليء بالصياغات التقريرية والبديهيات الطبيعية مثل قوله (أتري حين أفقأ عينيك/ ثم أثبت جوهرتين مكانهما/ هل تري؟) فما الجديد الذي أضافه الشاعر لوعي القاريء؟، فأي انسان يعلم هذه البديهية. كما أن الشاعر انزلق وراء الصياغة الشاعرية متجاهلا أن الإنسان الحريري ويدرك ببصيرته أكثر مما يري ويدرك ببصره. وإذا كان الشاعر كتب ومضي (فهذه رؤيته وهذا حقه) فإن الكارثة تكمن في الثقافة السائدة المولعة بالإبداع أحادي النظر والذي يجتر تراث العنف دون أفق إنساني يبتكر التصورات لمجتمع بشري أقل تعاسة وأكثر سعادة. وكما احتفت الثقافة السائدة بقصيدة (لا تصالح) فعلت نفس الشيء مع قصيدة (إما أن تكون أو لا تكون) ل علي أحمد باكثير وفيها قال (لا صلح ياقومي وإن طال المدي/ وإن أغار خصمنا وأنجدا/ وإن بغي وإن طغي وإن عدي) إلخ. الفساد الشعري هنا يكمن في توظيف جملة شكسبير الفلسفية (أكون أو لا أكون) لأغراض السياسة، مثلها مثل فساد طلب عودة القتيل إلي الحياة. وفي كل الحالات يجد العقل الحر أنه أمام دوائر عبثية من اجترار الذهنية العربية التي تري (إما الكل أو لا شيء) وهي ذهنية عبر عنها شاعر عربي قديم في قوله (وإنا أناس لا توسط بيننا/ لنا الصدر دون العالمين أو القبر) أليست هي دعوة للانتحار الجماعي، كما تفعل حماس التي تري أن بقاءها وحصولها علي أموال الشعوب العربية والاتحاد الأوربي مرهون باستمرار شقاء الشعب الفلسطيني حتي ولو أدي الأمر إلي فنائه، وكان أ. عبد الرحمن الراشد علي حق عندما ذكر أن الرافضين لإطلاق (شليط) لا يهمهم مأساة مليون فلسطيني، لأن ذلك لو تم فلن يكون هناك حصار ومواجهات وقضية يرفعون قميصها كل يوم لأغراضهم الأخري (صحيفة الشرق الأوسط/ 1/ 6/ 2010 ص13) ولعل عمرو ابن كلثوم الذي قال (لنا الدنيا ومن أمسي عليها/ ونبطش حين نبطش قادرينا / طغاة ظالمون وما ظلمنا/ ونظلم حين نظلم بادئينا/ إذا بلغ الرضيع لنا فطاما/ تخر له الجبابر ساجدينا) ولعل نظرة إلي دواوين محمود درويش الأولي الخطابية ، ووقوعه في التناقض بين تحرير فلسطين وإدانته للشعب الأسباني الذي تحرر من مستعمريه ، كما قال في قصيدته، (الكمنجات) التي يقول فيها (الكمنجات تبكي مع الغجر الذاهبين إلي الأندلس/ الكمنجات تبكي علي العرب الخارجين من الأندلس) إلخ بينما في ديوانيه الأخيرين تتسع نظرته إلي الكون والوجود والإنسان فيقول (كنت أحسب أن المكان يعرف/ بالأمهات ورائحة المريمية/ لا أحد/ قال لي أن هذا يسمي بلادا/ وأن وراء البلاد حدودا، وأن وراء الحدود مكانا يسمي شتاتاً ومنفي/ لنا، لم أكن بعد في حاجه للهوية/ .. والهوية؟ قلت/ فقال دفاع عن الذات/ أن الهوية بنت الولادة، لكنها في النهاية إبداع صاحبها، لا وراثة ماض. أنا المتعدد/ في داخلي خارجي المتجدد/ يحب بلادا، ويرحل عنها (هل المستحيل بعيد؟ يحب الرحيل الي أي شيء/ ففي السفر الحر بين الثقافات/ قد يجد الباحثون عن الجوهر البشري مقاعد كافية للجميع.