عندما ظهرت نتائج الثانوية العامة فى صيف العام الحالى 2010 ، أُستضفت على قناة "on tv" فى برنامج " بلدنا .." مع المذيعة " ريم ماجد " ،وعبرت من خلال هذا البرنامج ، وكذلك فى مقال لى نشر فى موقع المصريون ،وجريدة ( نهضة مصر ) عن عدم اطمئنان قلبى للنتائج ، مستخدما كلمات تعبر عن " الشك " ، مستندا إلى تصريح غريب لوزير التربية قبل الامتحانات جاء فيه أن من سيحصل على 85 أو أكثر بالمائة فسوف يلقاه لقاء حسنا ،وهو ما يشير إلى تنبؤ مفترض أن الوزير لا يلقيه هكذا من باب المزاح . وفضلا عن هذا ، فقد استندت أيضا إلى اتجاه لما يزيد عن عشر سنوات ماضية .. ثم إذا بى أتلقى مكالمة على هاتفى المحمول ، من رقم غير معروف ، بادر المتحدث إلى القول بأنه الدكتور أحمد زكى بدر ،ولم تستغرق المكالمة ربما أكثر من دقيقتين ،وربما أقل ، انطلق فيها كالصاروخ بكلام خشن لا يليق بالمتحدث ، باعتباره وزيرا " للتربية" ،ولا يليق كذلك أن يُوجه لى . صحيح أن الدكتور بدر " وزير " ،وأنا لا أتقلد أى منصب ، لكن ، إذا كان هذا صحيحا من الناحية الإدارية ، إلا أن الناحية العلمية والمهنية لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار ، فهو فى مقام أصغر تلاميذى ، حيث منهم من تجاوز الستين من العمر ، على الرغم من اختلاف التخصص . كان محور المكالمة العاصفة الخاطفة هو سخريته من أننى " أشكك " فى نتائج الثانوية العامة ،وأن هذا يدعوه إلى أن يشك فى شخصى ، لأنى أشك بغير دليل ، بل وأعلن شكه فى عموم التربويين ! لم يكن لى ساعتها رد فعل ، ذلك أنه آثر أن يكون حديثه " فى اتجاه واحد " ، كما فى حركة المرور ،ولم لا ؟ فهو وزير ابن وزير ، لكننى ابن امرأة كانت تأكل " القديد " وأب " صنايعى " ممن عاش بنا عند خط الفقر ! لا أقول هذا حسرة وحسدا ، بالعكس ، أقوله فخرا واعتزازا ، لأنه يعنى أن كل خطوة خطوناها كانت نتيجة كد وكدح وعرق ودموع ، وحرث فى الحجر ،لم يشبها أبدا ، فى أية لحظة طوال أربع وسبعين عاما ،شبهة مجاملة أو وساطة و " زق " وخدمة ، ذلك أن أمثالنا من أبناء الطبقة الدنيا – اقتصاديا واجتماعيا – لا يحظون بشئ مثل هذا ،,هى نعمة نحمد الله عليها ونشكره . لم أرد أن أكتب ردا وقتها خوفا من أن تؤثر انفعالات الغضب على ما أكتب ،فيتخلى لسانى عما عودته عليه من عفة قول ، أو ينجرف قلمى عما عودته عليه من أدب الاختلاف والحرص على البعد عن المعارك الشخصية ، وانتظرت هذه المدة التى زادت عن شهرين ليجئ حديثى بغير انفعال يساوى انفعاله ، فأبعد عن استخدام الأسلوب الخشن والألفاظ غير اللائقة مثلما فعل هو ، لا عن خوف من سلطة ،وإنما من خوف على مقام كاتب هذه السطور الذى عرفه ألوف الناس منذ أن مارسنا الكتابة العامة ، فى يناير عام 1970 ، بعد الحصول على الدكتوراه بعام على وجه التقريب ، بجريدة الأهرام زمن محمد حسنين هيكل وجمال عبد الناصر ، حيث – ربما – لم يكن الوزير قد حصل على الثانوية العامة بعد. بالصدفة ، كان من أولى المحاضرات التى تلقيناها فى قسم الفلسفة بآداب القاهرة عام 1955 ، حيث لا أعلم أين كان بدر وقتها تعليميا ، على يد الراحل العظيم الدكتور أحمد فؤاد الأهوانى ، من خلال دراسة الفلسفة اليونانية قبل سقراط ، حيث كان أبرز الموضوعات خاصا بجماعة " السوفسطائيين " الذين رفعو راية " الشك " ! ودون الدخول فى تفصيلات تثق كاهل القارئ العزيز ،وقد لا تطيقها طاقة وزيرنا العظيم ، فقد وُصف هذا الشك بالشك المطلق الفلسفى الذى لا يرى إمكان الوصول إلى الحقيقة . لكننا بعد ذلك ، تعلمنا على أساتذة رواد آخرين أفاضل الكثير عن نوع آخر من الشك ، قال به مفكر الإسلام الكبير أبو حامد الغزالى من خلال تجربته المتميزة فى ( المنقذ من الضلال ) ، وكذلك فيلسوف فرنسا الشهير " رينيه ديكارت " فى كتابه المعروف ( مقال فى المنهج )، حيث سمّى المتخصصون هذا الشك بأنه " منهجى " ، أى يصطنعه صاحبه مؤقتا سعيا وراء الوصول إلى أقرب نقطة من الحقيقة . وشبيه بهذا ، ما عبر به نبى الله إبراهيم عليه السلام عندما طلب من مولاه سبحانه وتعالى أن يريه كيف يحيى الموتى ،ولما سأله المولى " أن لم تؤمن " ، أجاب النبى الكريم " بلى ، ولكن ليطمئن قلبى " ..إنه شك منهجى ،وأحيانا ما يصفه البعض بأنه " شك علمى " . وهكذا كنت منطلقا فى التعبير عن شكى من نفس المنطلق ..لم أكن لأقطع وأحسم المسألة فى جانب التكذيب ،وإنما كانت تعبيراتى وكلماتى تدور حول أن الوقائع تثير علامات استفهام ،وتطرح تساؤلات تحتاج إلى إجابة . هذا هو مضمون ما قلته فى البرنامج التلفزيونى ، المرئى والمسموع ،وفى مقالى المقروء ، يخلو من " التأكيد " و " التقرير " ...يعلق الحكم إلى أن يتوافر الدليل ،والذى هو فى يد المختصين . إن معالى الويزر الهمام ، فيما يبدو ، كان متأثرا بالمفهوم العام الشعبى للشك ، الذى إذ يُعَبّر به ، يشير إلى قَطْع بموقف عدم الإيمان ، فهذا مُشْتَر – مثلا – عندما يعلن عن شكه فى سلعة ، فكأنه يعلن حكمه على فسادها ،وهذا صديق – مثلا – إذ يعلن عن شكه فى صديق آخر له ، إنما يعلن بذلك عن سوء خلقه . وفضلا عن ذلك ، فإن الشك عموما هو فى جوهره ومحتواه إعلان عن افتقاد الدليل ، بالنفى أو الإثبات ،ولذلك فمما يضاد التفكير السليم أن ترمى آخر بتهمة أنه يشك بغير دليل ، لأن الدليل إذا توافر انعدم الشك ، فالدليل يؤدى إلى اليقين ، الذى هو عكس الشك ! إن هذا إن دل على شئ فإنما يدل على ما تتسم به شخصية بدر من " اندفاعية " تذهب به فى وقت إلى أقصى اليسار ، وفى وقت آخر إلى أقصى اليمين ،وهو ما رأيناه فى بعض مواقفه العملية ، إلى الدرجة التى ساق فيها الكاتب الألمعى لبيب السباعى فى الصفحة التعليمية بالأهرام تشبيها مضحكا للوزير بأنه مثل " المعلم حنفى " فى الفيلم الشهير للممثل العبقرى الراحل " عبد الفتاخ القصرى " ، صاحب " نورماندى تو " ،فى فيلم ( ابن حميدو) حيث كان يجأر بصوت عال أن كلمته لا تنزل الأرض ، لكن ، عندما تكشر له زوجته ( أو أى سلطة أقوى ) عن أنيابها ، يكمل تصريحه بأن كلمته – أحيانا – يمكن أن تنزل الأرض ! وساق السباعى أمثلة يؤكد بها على التشابه بين المعلم حنفى وبدر! لم يزعجنى ، كما قد يتصور البعض هذا الحديث الخشن غير اللائق ، فأنا أعرف نفسى جيدا ،ويعرفنى آلاف من الذين تعلموا على يدى علوم التربية فى أرجاء مختلفة من مصر ،منذ ثمان وأربعين عاما ، بل وآلاف أيضا فى معظم البلدان العربية ،فإذا كان فى جيبى صفحة بيضاء ، لا يهمنى فى كثير أو فى قليل أن يزعم هذا أو ذاك أن الذى فى جيبى هو " صرصار " أو حتى نملة ! إنما الذى أزعجنى وقذف الرعب فى قلبى حقا هو خوفى الشديد على المسيرة المعرفية لملايين من أبناء هذا الوطن العظيم ،تاريخا وطبيعة ، المسكين ، حالا وحاضرا ، عندما يقود تعليمهم عقل يفكر بهذا النهج المؤسف حقا ،ويتحدث بمثل هذا الأسلوب ،لامحزن فعلا، خاصة وأننا نعيش ثقافة من أمراضها الأساسية النظر بعين التقديس إلى ما يقول به ولى الأمر ، وصاحب السلطة ،وكأنه لا ينطق عن الهوى وإنما هو وحى يوحى ، فضلا عن أساليب النفاق والتزلف التى يتسابق البعض إلى انتهاجها دفاعا عن صاحب السلطة ،وهجوما على من يجلس على الرصيف التربوى ،حتى ولو كان صاحب تاريخ علما يقارب نصف قرن من الزمان ! وعندما أقارن هذا الذى فعل بدر ، بما كان يفعله وزير أسبق مثل الدكتور فتحى سرور ، الذى أشبعته نقدا عنيفا وهجوما حادا فى العديد من الصحف ، وعلى رأسها الأهرام ،وكان على رأس هذه المقالات، مقال شهير بعنوان( الخطايا العشر فى الخطاب الرسمى للتعليم ) ، ومع ذلك فلم ينس الرجل أستاذيته العلمية التى تؤكد أن لكل إنسان الحق فى أن يرى ما لا يراه هو ،وأن أستاذ الجامعة الحقيقى يجادل بالتى هى أحسن ،ولا يقيم جدله على الألفاظ الخشنة ،ولا يتحاور بالسكين ، بل بالكلمات المتعمقة والمنطق السديد، فكان لا يغضب منى ، بل على العكس من ذلك ، كثيرا ما كان يتصل بى هاتفيا ويناقشنى فيما كتبت ، بكل أدب واحترام ،وأكثر من هذا قال للأحد أساتذة بدر ، الراحل الدكتور محمد الهاشمى ، الذى كان رئيسا لجامعة عين شمس والمهندس العظيم ، كلاما أخجل أن أكرره الآن ، تقديرا واحتراما ..كنت أرى هذا منه ،وأحسبه أمرا طبيعيا وعاديا ، لكننى عندما أتذكره الآن ،وبعد أن رأيت ما بعده ، أشعر بتقدير لا يوصف لهذا الرجل العظيم ، رغم أننى كتبت مقالا قاسيا عن رئاسته لمجلس الشعب ،,عقّب هو عليه بكلمة لا تقل قسوة. كذلك ملأت الكثير من الصحف عبر أكثر من عشر سنوات انتقادا لسياسات الدكتور حسين بهاء الدين ، الذى رغم أنه كان سببا فى شن عدة غارات على شخصى ، إلا أنه فى قرارة نفسه أشعرنى أكثر من مرة بتقديره لى ، سواء بمكالمة تليفونية مهذبة تفيض بكلمات المديح والإطراء ، أو بخمس خطابات رسمية موقعة بخط يده يدعونى فيها إلى المشاركة معه بالرأى ،دون استجابة منى لحرصى الدائم على الابتعاد عن مواقع السلطة ،ومن ثم بدت الغارات المشار إليها، " شغل سياسة " كما يقولون ، مما جعلنى أتحسر على أيام هذا الوزير الكبير ، رغم كل ما سببه لى من أذى ! عندها تذكرت المقولة الشهير : رب يوم بكيت منه ، فلما مضى بكيت عليه !!