كان من أولي المحاضرات التي تلقيناها في قسم الفلسفة بآداب القاهرة عام 1955 ، حيث لا أعلم أين كان بدر وقتها تعليميا ، علي يد الراحل العظيم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني ، من خلال دراسة الفلسفة اليونانية قبل سقراط عندما ظهرت نتائج الثانوية العامة في صيف العام الحالي 2010 ، أُستضفت علي قناة "on tv" في برنامج " بلدنا .." مع المذيعة " ريم ماجد " ،وعبرت من خلال هذا البرنامج ، وكذلك في مقال لي نشر في موقع المصريون ،وجريدة ( نهضة مصر ) عن عدم اطمئنان قلبي للنتائج ، مستخدما كلمات تعبر عن " الشك " ، مستندا إلي تصريح غريب لوزير التربية قبل الامتحانات جاء فيه أن من سيحصل علي 85 أو أكثر بالمائة فسوف يلقاه لقاء حسنا ،وهو ما يشير إلي تنبؤ مفترض أن الوزير لا يلقيه هكذا من باب المزاح . وفضلا عن هذا ، فقد استندت أيضا إلي اتجاه لما يزيد علي عشر سنوات ماضية .. ثم إذا بي أتلقي مكالمة علي هاتفي المحمول ، من رقم غير معروف ، بادر المتحدث إلي القول بأنه الدكتور أحمد زكي بدر ،ولم تستغرق المكالمة ربما أكثر من دقيقتين ،وربما أقل ، انطلق فيها كالصاروخ بكلام خشن لا يليق بالمتحدث ، باعتباره وزيرا " للتربية" ،ولا يليق كذلك أن يوجه لي . صحيح أن الدكتور بدر " وزير " ،وأنا لا أتقلد أي منصب ، لكن ، إذا كان هذا صحيحا من الناحية الإدارية ، إلا أن الناحية العلمية والمهنية لابد أن تؤخذ بعين الاعتبار ، فهو في مقام أصغر تلاميذي ، حيث منهم من تجاوز الستين من العمر ، علي الرغم من اختلاف التخصص . كان محور المكالمة العاصفة الخاطفة هو سخريته من أنني " أشكك " في نتائج الثانوية العامة ،وأن هذا يدعوه إلي أن يشك في شخصي ، لأني أشك بغير دليل ، بل وأعلن شكه في عموم التربويين ! لم يكن لي ساعتها رد فعل ، ذلك أنه آثر أن يكون حديثه " في اتجاه واحد " ، كما في حركة المرور ،ولم لا ؟ فهو وزير ابن وزير ، لكنني ابن امرأة كانت تأكل " القديد " وأب " صنايعي " ممن عاش بنا عند خط الفقر ! لا أقول هذا حسرة وحسدا ، بالعكس ، أقوله فخرا واعتزازا ، لأنه يعني أن كل خطوة خطوناها كانت نتيجة كد وكدح وعرق ودموع ، وحرث في الحجر ،لم يشبها أبدا ، في أية لحظة طوال أربع وسبعين عاما ،شبهة مجاملة أو وساطة و " زق " وخدمة ، ذلك أن أمثالنا من أبناء الطبقة الدنيا _ اقتصاديا واجتماعيا _ لا يحظون بشئ مثل هذا ،,هي نعمة نحمد الله عليها ونشكره . لم أرد أن أكتب ردا وقتها خوفا من أن تؤثر انفعالات الغضب علي ما أكتب ،فيتخلي لساني عما عودته عليه من عفة قول ، أو ينجرف قلمي عما عودته عليه من أدب الاختلاف والحرص علي البعد عن المعارك الشخصية ، وانتظرت هذه المدة التي زادت عن شهرين ليجئ حديثي بغير انفعال يساوي انفعاله ، فأبعد عن استخدام الأسلوب الخشن والألفاظ غير اللائقة مثلما فعل هو ، لا عن خوف من سلطة ،وإنما من خوف علي مقام كاتب هذه السطور الذي عرفه ألوف الناس منذ أن مارسنا الكتابة العامة ، في يناير عام 1970 ، بعد الحصول علي الدكتوراه بعام علي وجه التقريب ، بجريدة الأهرام زمن محمد حسنين هيكل وجمال عبد الناصر ، حيث _ ربما _ لم يكن الوزير قد حصل علي الثانوية العامة بعد. بالصدفة ، كان من أولي المحاضرات التي تلقيناها في قسم الفلسفة بآداب القاهرة عام 1955 ، حيث لا أعلم أين كان بدر وقتها تعليميا ، علي يد الراحل العظيم الدكتور أحمد فؤاد الأهواني ، من خلال دراسة الفلسفة اليونانية قبل سقراط ، حيث كان أبرز الموضوعات خاصا بجماعة " السفسطائيين " الذين رفعو راية " الشك " ! لكننا بعد ذلك ، تعلمنا علي أساتذة رواد آخرين أفاضل الكثير عن نوع آخر من الشك ، قال به مفكر الإسلام الكبير أبو حامد الغزالي من خلال تجربته المتميزة في ( المنقذ من الضلال ) ، وكذلك فيلسوف فرنسا الشهير " رينيه ديكارت " في كتابه المعروف ( مقال في المنهج )، حيث سمّي المتخصصون هذا الشك بأنه " منهجي " ، أي يصطنعه صاحبه مؤقتا سعيا وراء الوصول إلي أقرب نقطة من الحقيقة . وشبيه بهذا ، ما عبر به نبي الله إبراهيم عليه السلام عندما طلب من مولاه سبحانه وتعالي أن يريه كيف يحيي الموتي ،ولما سأله المولي " أو لم تؤمن " ، أجاب النبي الكريم " بلي ، ولكن ليطمئن قلبي " ..إنه شك منهجي ،وأحيانا ما يصفه البعض بأنه " شك علمي " . وهكذا كنت منطلقا في التعبير عن شكي من نفس المنطلق ..لم أكن لأقطع وأحسم المسألة في جانب التكذيب ،وإنما كانت تعبيراتي وكلماتي تدور حول أن الوقائع تثير علامات استفهام ،وتطرح تساؤلات تحتاج إلي إجابة . هذا هو مضمون ما قلته في البرنامج التلفزيوني ، المرئي والمسموع ،وفي مقالي المقروء ، يخلو من " التأكيد " و إن هذا إن دل علي شئ فإنما يدل علي ما تتسم به شخصية بدر من " اندفاعية " تذهب به في وقت إلي أقصي اليسار ، وفي وقت آخر إلي أقصي اليمين ،وهو ما رأيناه في بعض مواقفه العملية ، إلي الدرجة التي ساق فيها الكاتب الألمعي لبيب السباعي في الصفحة التعليمية بالأهرام تشبيها مضحكا للوزير بأنه مثل " المعلم حنفي " في الفيلم الشهير للممثل العبقري الراحل " عبد الفتاح القصري " ، صاحب " نورماندي تو " ،في فيلم ( ابن حميدو) حيث كان يجأر بصوت عال أن كلمته لا تنزل الأرض ، لكن ، عندما تكشر له زوجته ( أو أي سلطة أقوي ) عن أنيابها ، يكمل تصريحه بأن كلمته _ أحيانا _ يمكن أن تنزل الأرض ! وساق السباعي أمثلة يؤكد بها علي التشابه بين المعلم حنفي وبدر! لم يزعجني ، كما قد يتصور البعض هذا الحديث الخشن غير اللائق ، فأنا أعرف نفسي جيدا ،ويعرفني آلاف من الذين تعلموا علي يدي علوم التربية في أرجاء مختلفة من مصر ،منذ ثمانية وأربعين عاما ، بل وآلاف أيضا في معظم البلدان العربية ،فإذا كان في جيبي صفحة بيضاء ، لا يهمني في كثير أو في قليل أن يزعم هذا أو ذاك أن الذي في جيبي هو " صرصار " أو حتي نملة ! إنما الذي أزعجني وقذف الرعب في قلبي حقا هو خوفي الشديد علي المسيرة المعرفية لملايين من أبناء هذا الوطن العظيم ،تاريخا وطبيعة ، المسكين ، حالا وحاضرا ، عندما يقود تعليمهم عقل يفكر بهذا النهج المؤسف حقا ،ويتحدث بمثل هذا الأسلوب ،المحزن فعلا، خاصة وأننا نعيش ثقافة من أمراضها الأساسية النظر بعين التقديس إلي ما يقول به ولي الأمر ، وصاحب السلطة ،وكأنه لا ينطق عن الهوي وإنما هو وحي يوحي ، فضلا عن أساليب النفاق والتزلف التي يتسابق البعض إلي انتهاجها دفاعا عن صاحب السلطة ،وهجوما علي من يجلس علي الرصيف التربوي ،حتي ولو كان صاحب تاريخ علما يقارب نصف قرن من الزمان ! وعندما أقارن هذا الذي فعل بدر ، بما كان يفعله وزير أسبق مثل الدكتور فتحي سرور ، الذي أشبعته نقدا عنيفا وهجوما حادا في العديد من الصحف ، وعلي رأسها الأهرام ،وكان علي رأس هذه المقالات، مقال شهير بعنوان( الخطايا العشر في الخطاب الرسمي للتعليم ) ، ومع ذلك فلم ينس الرجل أستاذيته العلمية التي تؤكد أن لكل إنسان الحق في أن يري ما لا يراه هو ،وأن أستاذ الجامعة الحقيقي يجادل بالتي هي أحسن ،ولا يقيم جدله علي الألفاظ الخشنة ،ولا يتحاور بالسكين ، بل بالكلمات المتعمقة والمنطق السديد، فكان لا يغضب مني ، بل علي العكس من ذلك ، كثيرا ما كان يتصل بي هاتفيا ويناقشني فيما كتبت ، بكل أدب واحترام ،وأكثر من هذا قال لأحد أساتذة بدر ، الراحل الدكتور محمد الهاشمي ، الذي كان رئيسا لجامعة عين شمس والمهندس العظيم ، كلاما أخجل أن أكرره الآن ، تقديرا واحتراما ..كنت أري هذا منه ،وأحسبه أمرا طبيعيا وعاديا ، لكنني عندما أتذكره الآن ،وبعد أن رأيت ما بعده ، أشعر بتقدير لا يوصف لهذا الرجل العظيم ، رغم أنني كتبت مقالا قاسيا عن رئاسته لمجلس الشعب ،,عقّب هو عليه بكلمة لا تقل قسوة. كذلك ملأت الكثير من الصحف عبر أكثر من عشر سنوات انتقادا لسياسات الدكتور حسين بهاء الدين ، الذي رغم أنه كان سببا في شن عدة غارات علي شخصي ، إلا أنه في قرارة نفسه أشعرني أكثر من مرة بتقديره لي ، سواء بمكالمة تليفونية مهذبة تفيض بكلمات المديح والإطراء ، أو بخمس خطابات رسمية موقعة بخط يده يدعوني فيها إلي المشاركة معه بالرأي ،دون استجابة مني لحرصي الدائم علي الابتعاد عن مواقع السلطة ،ومن ثم بدت الغارات المشار إليها، " شغل سياسة " كما يقولون ، مما جعلني أتحسر علي أيام هذا الوزير الكبير ، رغم كل ما سببه لي من أذي ! عندها تذكرت المقولة الشهيرة : رب يوم بكيت منه ، فلما مضي بكيت عليه !!