في أحد أيام أواخر عام 1966 أو أوائل عام 1967، إذ لا تسعفني الذاكرة بتحديد اليوم بدقة، كنا جالسين، مجموعة معيدين (لم تكن درجة مدرس مساعد قد ظهرت بعد) في تربية عين شمس، عندما كنت في شارع أمين سامي بمنطقة قصر العيني حيث شمس الشتاء الدافئة، أمام قسم علم النفس التعليمي، عندما جاءنا ضيف جديد، مقدما نفسه بأنه الدكتور فؤاد أبو حطب العائد توا من بعثته بإنجلترا، في علم النفس التعليمي، وبعد أن رحبنا به، وبدأ كل منا يعرف نفسه، وجاء دوري قائلا إن موضوع رسالتي التي حصلت بها علي الماجستير هو (الاتجاه التجريبي في الفلسفة المعاصرة وأثره علي الفكر والتطبيق التربوي)، سارع الضيف الجديد قائلا إنه قرأ ملخصا عنها كان منشورا في أحد أعداد المجلة الرائعة التي كانت تصدرها وزارة الثقافة باسم (المجلة) والتي رأس تحريرها مفكرون عظام مثل يحيي حقي وعلي الراعي وفتحي رضوان وحسين فوزي. الحق أقول، إن هذا التعقيب أدهشني وأعجبني، ذلك أن الشائع أن المتخصصين في دوائر علمية ضيقة متعمقة، كثيرا ما ينصرفون عن متابعة هذه النوعية من المجلات الفكرية المتعمقة، فضلا عن أن يقرءوا فيها عن الفلسفة والتربية. كذلك، فلم يكن يدور بخيالي أن يهتم طالب بعثة بأوروبا بمتابعة مثل هذه المجلة محدودة الانتشار، ويقرأ مثل هذا الموضوع، وهو متوفر علي البحث والتنقيب في أغوار فرع بعينه من فروع علم النفس، خاص بالقدرات العقلية والتفكير، حيث إن الأمر هنا داخل مصر، نادرا ما كنت أراه متوافرا لدي كثير من أعضاء هيئة التدريس والزملاء. أكبرت الرجل، من هذه الواقعة البسيطة التي أعدها مؤشرا مهما للنزعة الثقافية عند هذا أو ذاك، وبالتالي مؤشرا لدرجة التقدير التي أشعر بأن هذا أو ذاك يستحقها، وخاصة من بين العلماء المتخصصين، وهو الأمر الذي ظللت ألاحظه لدي فقيدنا الراحل طوال مصاحبتي له، وطوال هذه الفترة حرصت أشد ما يكون الحرص علي أن تتوثق علاقتي به، ويستمر التواصل بيننا، لا علي المستوي الثنائي فحسب، بل امتد ليكون علي المستوي العائلي كذلك، خاصة أن رفيقة عمره هي الأستاذة الدكتورة آمال مختار، القطب الآخر في هذا القطاع من علم النفس في جامعة حلوان. وعندما حلت ظروف قضت بأن أخرج للعمل بالخارج معارا عام 1975 كان لدي عرضان، أحدهما لكلية التربية بجامعة الملك سعود بالرياض، والآخر بكلية التربية بمكة المكرمة، كان معيار تفضيلي لمكة ليس هو الدافع الديني، كما قد يسارع إلي القول بهذا كثيرون، وإنما لأن ثلاثة من خيرة أساتذة التربية وعلم النفس، علما وخلقا، كانوا قد سبقوني إلي هناك، وهم الدكاترة فؤاد أبو حطب، وحامد زهران، وحلمي الوكيل، ومن ثم يكونون خير جليس وخير رفيق في هذه الغربة. وكان فؤاد وزوجته هما اللذان تلقفاني ومعي أسرتي، إلي أن استقرت أموري من حيث السكن وتأثيثه، فصدقت توقعاتي وظللت ممتنا لهذه الشهامة المصرية منهما، فضلا عن أيام وليالي طويلة وكثيرة طوال ثلاث سنوات علي وجه التقريب، نسعد برفقة عائلية كأطيب ما تكون الرفقة وأثراها علما وثقافة واجتماعا، وإذا بي أجد نفسي دائما، طوال لقاءاتنا أمام مائدة ثرية قلما أخرج منها إلا وقد عرفت شيئا لم أكن أعرفه، خاصة من الثقافة النفسية التي كنت قد انقطعت عنها بعدما عينت معيدا في قسم أصول التربية، بعد سنوات طويلة بدأت من عام 1955 حيث أتاحت لنا الدراسة في قسم الفلسفة بآداب القاهرة الكثير من المعارف النفسية، وكذلك خلال دراستنا بالدبلومين العام والخاص. ولعل ما يحضرني الآن، هو متابعتي لما رواه لنا فؤاد عن فضيحة أحد الأقطاب البارزين في علم النفس الغربي «سيريل بيرت» وكيف أن الكشف والتحليل قد كشف عن تزوير بعض نتائج أبحاثه، والتي كان قد سار وراءها مئات من علماء النفس في مختلف أنحاء العالم. كان فؤاد كتلة من النشاط العلمي البارز، فكانت بحوثه وكتبه علامات حقيقية تركت بصماتها علي مسيرة علم النفس التربوي، وأبرزها كتبه عن القدرات العقلية، وعلم النفس التربوي مع الدكتورة آمال، والتفكير مع العظيم، أمد الله في عمره، سيد عثمان، وغير هذا وذاك من كتب وبحوث ودراسات، يلمس القارئ لها أن فؤاد ليس مُكَرِّرا لما جاء به سابقوه، وإنما هو دائما يجدد ويطور، ثم يشعر القارئ بأن من وراء هذه الكتابات عقلاً عربيًا يتسم بالأصالة، ثقافة وروحا ولغة ووجهة. كان المعهد العالمي للفكر الإسلامي، قبل أن يُضَيق عليه الخناق، ظلما وافتراء، قد عقد ندوة عن علم النفس والإسلام عام 1989، فإذا بأصالة الدكتور فؤاد تبرز جلية عميقة، عندما أصّل لمراحل النمو وغيرها من جوانب من القرآن الكريم، فيمتزج العلم المعاصر الذي حصله في جامعة لندن، مع الحس الإسلامي لديه، مع الهم القومي والوطني في قلبه، مع قلم سيَّال يعرف الطريق بسهولة أمام حسن التعبير ودقته وطلاوته، فتخرج لنا دراسة تعد علامة علي الطريق حقا. واستطاع فؤاد أن يجعل من الجمعية المصرية لعلم النفس منارة بارزة لا في مصر وحدها وإنما في العالم العربي، وقد لمست هذا عمليا عندما دعاني مرة لندوة ضمن أنشطة مؤتمر الجمعية عام 2000 بالسويس، حيث لمست قدرة هذا العالم العظيم علي تجميع كل طاقات علماء النفس في مصر وخارجها في هذا التنظيم العلمي، بينما كنت أري عكس هذا في ساحة العلوم التربوية الأخري، حيث يسير الاتجاه نحو الانشقاق والتفرع، بحكم العدوي الشهيرة، بأن يكون كل واحد رئيسا لمجلس إدارة ورئيسا لتحرير مجلة، ورئيسا لمؤتمر! وقد سارعت إلي تسجيل تقديري لأنشطة المؤتمر في مقال نشره الأهرام، وبعد أسبوع من نشر المقال إذا بالدكتور فؤاد يحادثني مبكرا صباح يوم جمعة، متحدثا بانفعال غاضب آسف لمقال نشر بعد ذلك يهاجمني، حيث تعجب فؤاد، كيف يكون رد الفعل هكذا علي مقال أعرض فيه لجهد عظيم لجمعية علمية عظيمة، بقيادة أستاذ عظيم؟ وانتهي إلي تفسير لهذه الظاهرة أمسك عن الإشارة إليه، حيث لم يأذن لي الرجل وقد صار في رحاب الله، لكن ميزة هذا التفسير أنه قد أراحني كثيرا، حيث كنت بالفعل لا أدري السر وراء هذه الحملة الذي يغاير ما يعلن عنه من أسباب. ولم يكن فؤاد مجرد عالم يكتب ويبحث ويتحدث وينشر، وإنما كان أيضا يُنشئ ويوجِد، وأبرز ما سوف يذكره التاريخ حقا هو تأسيسه للمركز القومي للامتحانات والتقويم وفق أدق الأسس وأقواها وأنفعها وأحدثها، لكن المحزن حقا أن يكون جزاء الرجل كأشد ما يكون عليه جزاء سمنار الشهير. فبعقلية العالم الموضوعي الصادق، قاد فؤاد فريقا ضخما من الباحثين ليقَيّم حال مئات المدارس بمحافظات مختلفة في مصر، وفق المعايير العلمية الدقيقة، ولم يجامل أو ينافق، كما فعل غيره ممن كان قريبا من سلطة التعليم طوال التسعينيات من القرن الماضي، وخرج تقرير كبير، لم يشهد له تاريخ التعليم في مصر من قبل ذلك بعدة عقود، ولا حتي الآن، مثله صدقا وصراحة وعمقا. ثم إذا بوزير التعليم يأمر بحجب التقرير، حتي نظل لا ندري شيئا عن حقيقة حال المدارس، ونكتفي بما تعلنه السلطة من صور وردية مزيفة، والتي أرضت ضمائر البعض ممن يُحشرون من الناحية الرسمية في زُمرة العلماء، لكن ما جاء في التقرير تسرب إلي يد الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، ونشرت عنه بالأهرام، فثار الوزير، وكان لابد لفؤاد أن يخرج من المركز الذي أنشأه بحجة انتهاء فترة عمله، مع أن غيره استمر رغم سنه، فأعطاني الرجل نسخة من التقرير، ولما توفي سارعت إلي نشر ملخص له في جريدة الوفد، علي صفحة كاملة، مما أفزع سلطة التعليم، وهرع من هرع للدفاع عن الوزير والهجوم علي كاتب هذه السطور. وفي أحد أيام عام 2000 كنا ننتظر في جلسة لشعبة التعليم الجامعي بالمجالس القومية الدكتور فؤاد، حيث كان موعده ليبسط علينا تقريرا أعده عن الجودة في التعليم الجامعي، وكان الحديث عنها الذي يملأ الدنيا الآن، شحيحا في ذلك الوقت، ولم نتعود علي تأخر الرجل عن مواعيده، لكنه لم يأت، حيث جاءنا النبأ الكارثي... لقد انتقلت روحه إلي بارئها وهو ذاهب إلي الكلية مستعدا للمجيء إلينا.. الغريب أن دموعي لم تخرج من عيني، وكأن المخزون فيها لم يكف للتعبير عن الحزن علي الرجل، فآثر الانحباس، وأصابتني حالة من الكآبة شديدة ووجوم ثقيل الوطأة، لم يخفف منهما إلا رحلة كتبها الله لي إلي الولاياتالمتحدة، لأعود بعدها دائما ذاكرا للعالم العظيم، عبقريته وإماميته العلمية، رحمه الله.