تأسيسا علي ما سقناه – في مقالين سابقين – من براهن وأدلة شرعية، وأخري تاريخية واقعية دامغة تثبت أن الشريعة الإسلامية لا تصادر علي الإبداع الأدبي والفني، يستهدف هذا المقال إبراز حقيقة مهمة فحواها، أن ما جري من مصادرات لاهوتية كان من قبل حكام طغاة تستروا بالدين لإخفاء مفاسدهم، كذا من قبل «فقهاء السلطان» لتبرير تلك المفاسد خوفا وطمعا، هذا من ناحية، ومن أخري أن ظاهرة المصادرة تلك كانت إفرازا لعصور انحطاط الحضارة الإسلامية، بل كانت من أهم أسبابها. وحسبنا أن الإمام «الغزالي» اعتبر القائلين بالمصادرة والتحريم من مرتكبي الذنوب، لا لشيء إلا لأن الإسلام في جوهره دين الفطرة، وأن القرآن الكريم والسنة النبوية خلو من أي إشارة بصدد التحريم، لذلك لم يدخر وسعا في دحض مزاعم فقهاء المصادرة الذين اعتبروا الفنون والآداب «لهو ولعب يشغل عن الدين». في السياق نفسه، ذكر الفقيه والعالم المجتهد – الأستاذ الصديق جمال البنا – أن ظاهرة التحريم ليس لها من أساس، اللهم إلا أحاديث «موضوعة»، أو تأويل خاطئ لبعض آيات الذكر الحكيم، كما هو الحال بصدد الآية «الشعراء يتبعهم الغاوون» فالقرآن الكريم لم يحرم الشعر في حد ذاته، إنما حرم الأغراض البذيئة التي قيل فيها، كالفخر والهجاء والمديح. كما وأن القرآن الكريم لا يحرم تصوير البشر ولا صناعة التماثيل، بل نعي علي عباد من اتخذوها آلة لا تضر ولا تنفع من دون الله سبحانه. إذ الثابت تاريخيا أن الفاتحين المسلمين لم يهدموا قط تمثالا، ولم يحرقوا صورة، بل احترموا مقدسات اليهود والنصاري والمجوس والصابئة، واعتبروا اليهود والنصاري «أهل ذمة»، كما عاملوا المجوس والصابئة معاملة أهل الذمة، باستثناء نكاح نسائهم. لذلك، نطرح السؤال علي الإسلامويين المعاصرين: ما هي مرجعيتهم في التحريم والتجريم؟ ليس لديهم مرجعية سوي خزعبلات وترهات «الإسلام البدوي» الوهابي الذي اختزل الشريعة الغراء في «دفع الدية»، وهدم أضرح الأولياء، وتحريم التدخين، وحلق الشارب، وإطلاق اللحية وما شابه..!! وربما اتسعت معارفهم، لتمتد إلي تاريخ المرابطين من بدو الصحراء الكبري الذين شغلوا بتحطيم آلات الطرب عن مواجهة خطر حركة «الاستراد» الصليبية في الأندلس، وحسبنا ما جري من إحراقهم كتب الإمام الغزالي، لا لشيء إلا لأنه أفتي بمشروعية العزف علي الآلات الموسيقية شريطة عدم توظيف العزف في أغراض العبث والمجون. فلا يرتدع سلفيو العصر ويتوبوا إلي الله بعد إقدام بعض شبانهم علي قتل شابين احترفا الموسيقي لكسب ما يقيم أود المعاش؟!! وهل يتقون الله في أقباط مصر بالكف عن طلب إرغامهم علي دفع الجزية؟ وأخشي ما أخشاه أن تكون دعوتهم الخاصة بستر التماثيل لحجب رؤيتها بداية لتحطيمها اتباعا لسنة «إخوانهم» من طالبان في تحطيم تماثيل «بوذا»، ليس ذلك ببعيد، بعد إحراقهم بعض الكنائس، وهدم بعض أضرحة المتصوفة، وهو ما ينذر بفتن طائفية لا يعرف مداها إلا الله. ألا يعي هؤلاء المتنطعون حقيقة ما تدره الآثار علي مصر من موارد مهمة؟ وماذا نجم عن مزاعمهم من كساد السياحة وتعاظم مآسي الملايين بعد أن سدت أوجه أرزاقهم؟ الأنكي، هو إقدامهم علي ما فعلوا احتسابا لوجه الله، وخشية عودة ملايين المصريين لعبادة الأوثان!! وإذا ما افترضنا أن وجود التماثيل إثم، فهم يدركون أن شريعة الإسلام تقول «إن الضرورات تبيح المحظورات»؟ وأية ضرورة أفدح من اعتماد الملايين من المعدمين علي مقالب القمامة كمصدر لأقواتهم؟ وهل يشكل وجود التماثيل أذي لأبصارهم، أو ضررا لمصالحهم والشريعة تلح علي مبدأ «لا ضرر ولا ضرار». أني لهؤلاء الهمج بعلم بمقاصد الشريعة التي يصرون علي تطبيقها؟ أما وقد فشلوا في دعواهم، فعولوا علي تنصيب أنفسهم محتسبين «لتغيير المنكر» بأيديهم، لا بيد عمرو «السلطان» لقد قطع بعضهم أذن مسيحي «احتسابا لوجه الله»، وقتل بعضهم شابا تطاول فاصطحب خطيبته لنزهة بريئة، وإذ أقدم أحدهم بالأمس علي محاولة اغتيال «نجيب محفوظ»، لم يتورع شيوخهم عن محاكمة إبداعاته اليوم وبعد وفاته، وها هو أحد قتلة الرئيس السادات، يعلن الآن – في تبجح – بأنه لو عاد إلي الحياة لأقدم علي قتله مرة أخري!! فلماذا أعلن قادتهم – الذين حررهم الثوار من السجون – بأنهم تابوا وأنابوا، وسجلوا «المراجعات» في كتب من باب «التقية»؟ ولماذا تراجعوا عن تلك المراجعات بعد اختطاف الثورة بعد إجهاضها؟ ولماذا لاذت كل الفصائل الإسلاموية بالصمت التام حين أقدم أجلاف العسكر علي انتهاك حرمات فتيات الثورة – بدعوي الكشف عن البكارة – وسحل إحداهن في ميدان التحرير؟ ولماذا أقدم أحد قادتهم – ممن يدعون الدفاع عن الفضيلة – علي ارتكاب فعل فاضح في الطريق العام؟ ولماذا تاجر بعضهم بالمواد الحارقة في «السوق السوداء» وتسببوا في أزمة خانقة ذات نتائج وخيمة علي الاقتصاد المصري الكاسد أصلا؟ وماذا يتوقع الشعب البائس بعد وصولهم إلي السلطة؟ لقد وصلوا إليها بإملاء أمريكي صهيوني كجزء من مخطط خبيث يستهدف إحلال الإسلامويين في حكم الدول العربية من المحيط إلي الخليج، لا لشيء إلا لتكريس التخلف والعودة إلي عصور الظلام. والأنكي والأخطر، ما سيترتب علي ذلك من «فوضي خلاقة» تفضي إلي فتن طائفية، تمهد بدورها لإعادة تشكيل الخريطة العربية، بتجزئة الدول إلي كيانات قزمية إثنية أو طائفية. ذلك ما يتضمنه مخطط «الشرق الأوسط الكبير» الذي يجري تحويله إلي واقع مؤسف، علي قدم وساق!! فهلا يعي الإسلاميون المعاصرون خطورة المنزلق؟، وكيف يمكن أن يحققوا حلمهم «الطوبوي» المستحيل وهم أداة الإمبريالية والصهيونية في تنفيذ مخططاتها؟ أسئلة.. وأسئلة، إجابتها في علم الغيب!! والغيب – فيما أري – سيجري لصالح الثوار، لا لشيء إلا لأن الفساد في الكون عابر، وأن إخفاق الاستجابة للتحدي مرة أو مرات لا يحول دون تحقيق «الاستجابة الذهبية»، حسب «توينبي» كما أن التراكم الكمي حتما سيفضي إلي تغير كيفي، حسب ماركس، وحسب عقيدة الإسلام، سيمن الله «علي الذين استضعفوا في الأرض» ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، ومصر «المحروسة» بشخصيتها العبقرية وهويتها الحضارية المركبة من طبقات «أركيولوجية» فرعونية وهلليسنتية ومسيحية وإسلامية قادرة علي قهر الطغاة في الداخل والغزاة من الخارج، هذا هو ما أنبأ به تاريخها، فبرغم تعرضها لكل تلك الأخطار عبر عصور التاريخ، تفردت بالحفاظ علي حدودها «الجغرا-تاريخية»، وإذا ما تغيرت، كان التغيير في كل الأحوال لصالحها، حيث تتحول إلي دولة إمبراطورية. خلاصة القول، أن تعاظم الظاهرة الإسلاموية مجرد «زوبعة في فنجان» ستختفي حتما كفقاعة، وأن الإمبريالية في الطريق إلي النهاية، إذ تعارك أزمة الاضمحلال، أما إسرائيل، فهي غرس إمبريالي خبيث وطفيلي، وجود ضد قوانين الجغرافيا والتاريخ، علي حد تعبير «توينبي». لكن أرض الكنانة «محروسة» بعناية بارئها، وشعبها الذي هو «خير أجناد الأرض، وفي رباط إلي يوم القيامة».