أحمد الجنايني فنان تشكيلي وروائي وشاعر له إضافات متعددة في كل هذه المجالات، فبالإضافة إلي عشرات المعارض الفنية التي أقامها منذ بداية الثمانينيات من القرن الماضي حتي الآن، فقد صدر له ثلاثة دواوين شعرية هي «قليلا من عصير الروح» و«علي جناح فراشة» و«عشرون رمحا من أرق»، وصدرت له مؤخرا رواية تحت عنوان «حين هربت عاريات مودلياني». وقد ساهم الجنايني في نشر إبداعات الأجيال الجديدة من خلال سلسلة «المرسم» التي يصدرها بالإضافة إلي عمله كأمين لأتيليه القاهرة. هنا حوار معه حول تجربته الثقافية.. اللوحة بالنسبة لك حالة من المغامرة والمشاكسة اللونية والرؤيوية في آن، كيف تري هذه العلاقة بعد أكثر من ثلاثين عاما في الفن؟ الإبداع بشكل عام «مغامرة».. تلك حقيقة لا شك فيها، لأنه بداية لرحلة لا يعلم المبدع أين تنتهي به أو كيف، لكنها رحلة تتوالد عبرها الأسئلة التي تدفع بالمبدع إلي إعادة الاشتباك مع الذات وفي نفس الوقت تدفعه الأسئلة إلي المزيد من البحث والمزيد من محاولات فتح الباب أمام الظن والشك أمام السؤال الذي لا نمتلك له إجابة.. لأنه في الإبداع ليس ثمة إجابات يقينية، لكن هناك الكثير من لحظات محملة بالصراع مع الذات في محاولة للبحث عن مساحة – ليست لليقين – ولكن ربما لإيمان بالطاقة الروحية الداخلية للإنسان.. والاتكاء علي التفاصيل الوجدانية التي لا شك هي جزء من هذا المجتمع الذي نعيشه.. والتشكيل بالنسبة له يحمل بداخله مصباحا مشتعلا بالنار والنور.. والمغامرة مع اللون بالنسبة لي أكثر إثارة وأكثر قدرة علي خلق عالم لا نمتلك معه إلا الكثير من التأويل.. وفتح الباب أمام التأويل هو بداية حقيقية لرسم وتشكيل اللغة المراوغة التي هي بالأساس مفتاح المغامرة. حدثنا عن تجربة مرسمك في مدينة «منية سمنود» ولماذا لم تغرك أضواء القاهرة، رغم أنك حاضر فيها من خلال أنشطة متعددة؟ أنا أنتمي لطين وطمي قريتي «منية سمنود» تلك القرية التي تنام بحضن النيل – فرع دمياط – ومرسمي يبعد أمتارا قليلة عن هذا النهر الساحر الذي بدأت معه رحلتي في الفن حين كنت صغيرا أجلس تحت جميزة «عم محمد الشرقاوي» لأرسم أحيانا أو أشكل بالطمي منحوتاتي الصغيرة.. لا يمكنني أن أسقط تلك اللحظات من ذاكرتي.. فهي بالنسبة لي ذاكرة الوجدان الذي أغمس فيه طرف الفرشاة.. نعم ذاكرة الوجدان الذي عُبئ بحكايات الطفولة ورائحة العرق حين كنا أطفالا نجفف هذا العرق بنسيم يأتينا من هذا الساحر العظيم.. كل هذا لا يمكنني أن أتجاهله.. أشعر أنني مدين لهذه القرية البسيطة بكل التفاصيل التي تختزنها ذاكرتي فتخرج عبر مساحة لونية في إحدي لوحاتي.. مدين لهذه الشوارع الضيقة، التي شهدت وشاهدت طفولتي فتحولت في لوحاتي إلي عالم له خصوصية وجداني، أستعيد منها رغما عني ذاكرة الأصحاب.. والشوارع.. والأزقة.. والأشجار.. والنهر المقدس ومولد سيدي عزالدين.. وغيرها. لذلك بعد عودتي من رحلتي لألمانيا في بداية 1980 قررت أن تظل قريتي هي المساحة التي أغمس فيها فرشتي وأحافظ علي تلك العلاقة السحرية بيني وبينها بل بين وجداني وبين تفاصيل عوالمها الجميلة.. من هنا أقمت مرسمي الذي أصبح مزارا للمثقفين والفنانين من كل أنحاء الوطن بل يأتي إليه فنانون عرب وأجانب باعتباره مركزا للثقافة والإبداع. قمت منذ عشر سنوات بتكوين «جماعة أدبية» هي «جماعة رؤي» مع أدباء محافظة الغربية.. لماذا لم تستمر هذه الجماعة؟ تجربة «رؤي» كانت بداية جيدة لنشاط جماعي ضم مجموعة من أدباء الغربية وبالتحديد المحلة الكبري كانت هذه المجموعة تشكل تنوعا جيدا بين المسرح الممثل في المبدع محمد عبدالحافظ ناصف، والقصة ممثلة في المبدع إيهاب الورداني والشعر ممثلا في الشاعر محمد عبدالستار الدش وأدب الطفل ممثلا في الراحل جمال عساكر، وكنت ممثلا للتشكيل.. لكنها كانت مرحلة مرتبطة بظرف راهن ربما استحال معها الاستمرار بسبب وفاة جمال عساكر من ناحية ومن ناحية أخري انشغالي الأكثر بمشروعي الإبداعي الذي يفتح لي نافذة السفر المستمر سواء خارج مصر أو داخلها، أما عن مواصلتي لتجربة كتاب المرسم، فكتاب المرسم وثيقة للكيان الذي أنشأته بقريتي وهو مرسمي الخاص الذي تحول رغما عني إلي مركز ثقافي كما قلت. كيف تري علاقة الفن التشكيلي بالثورة؟ التشكيل يحفظ ذاكرة الوطن من ناحية ومن ناحية أخري يشارك بشكل فاعل في تشكيل الوعي. وطوال التاريخ يرتبط الفعل الثقافي والمد الثوري بالفنان التشكيلي.. بدء من جورنيكا بيكاسو ولوحات العظيم جويا.. و.. وثورة 25 يناير شكلت عالما جديدا خرج من رحم هذا المجتمع المصري بكل فئات، وأحدثت رغما عن كل وسائل القهر والاستبداد تحولا رائعا نحو أفق جديد شكلت عالما لابد أن تتحدد ملامحه وتكتمل معماريته بصمود شباب ثورته وقبضهم علي عالمهم وأهدافهم. والتشكيل هو جزء من هذا الحراك، جزء من هذا الفعل جزء من هذا البنيان، ورغم أهمية الفعل التشكيلي الموازي لإحداث الثورة إلا أنني أخشي أن يقع الفنان التشكيلي في شرك المباشرة فيخطفه الفعل الفوتوغرافي بعيدا عن التأمل الوجداني والولوج في تفاصيل اللغة بعيدا عن التسجيل المباشر، لابد أن نعرف أن ثمة فارقا كبيرا بين الإبداع.. والتسجيل.. أنا مهموم بالإبداع.. والثورة تحوي في تفاصيلها ذاكرة لا تنتهي.. ذاكرة للتأمل وتأمل يدفع لوعي يثري تفاصيل اللغة.. ويدشن لماهية إبداعاتها.