في معرض "إنسانيات" للفنان المصري احمد الجنايني ابن قرية سمنود, وفي حضور ما يقرب من خمس وثلاثين لوحة بأتيليه القاهرة, كان تجولنا ، وكان لقاءنا مع مشوار صاحب مركز "إيزيس للإبداع" والذي أسسه الفنان منذ خمسة سنوات. احمد الجنايني مع إحدى لوحات محيط: رهام محمود تخرجت من كلية الهندسة فناناً! فنان أحب الرسم منذ طفولته وقرر أن يكون فنانا تشكيليا .. فالفن هوسه وجنونه..من الأمور المثيرة للدهشة بحياته أنه لم يلتحق بكلية الفنون الجميلة كما توقع له المقربون, بل التحق بكلية الهندسة وخالف رغبة أهله وهو يعلم تماما مصيره. بسؤال الفنان عن السبب قال: كنت ارسم على الجدران والنوافذ وأي مسطح يقابلني, ولكن السبب في التحاقي بكلية الهندسة, هو أنني في المرحلة الاعدادية رأيت مدرس الرسم لا يفعل شيئا إلا أنه يمسك مسمارا وشاكوشا طول الوقت لعمل مستطيلات على الحوائط, وخشيت أن يكون هذا مصيري. يواصل الفنان: "اعتبرت أن هذه الدراسة وسيلة فقط لتأمين مستقبلي ، ولم تكن تعني أن أصبح مهندسا ، وكان من الممكن أن أعيش من الهندسة إذا لم أمارس الفن بشكل حقيقي وأتفرغ له ، ولكنني أحمد الله أنني لم أحتج لذلك وتفرغت تماما للفن ". حين انتهى الجنايني من دراسة الهندسة التحق بكلية الفنون الجميلة, والتقى بالفنان الكبير د. حامد عويس وعمل معه عاما كاملا, ومثلت هذه المرحلة تقييما لموهبته ، هل يستطيع بالفعل أن يقدم نفسه للساحة التشكيلية أم يتراجع ويمارس الهندسة. حمل الفنان بعد ذلك حقيبته ولوحاته وسافر إلى إلمانيا, لم يكن معه وقتها خطاب من وزارة الثقافة المصرية أو من أساتذة الفن المصريين, بل قدم نفسه عبر أعماله فقط, ومارس هناك الفن بشكل حقيقي, ثم قدمه تيرنش هارومان - من أهم فناني إلمانيا- وذلك من خلال معرضه الأول. تقدم الفنان لمدرسة الفنون الجميلة في ألمانيا ولكنه فوجيء بخطاب من مدرسة الفنون تشكره وتعتذر عن عدم قبوله؛ لأن أعماله المقدمة تنبع من فنان له ملامحه المتكامله ولا يجب على الإطلاق أن يجلي إلى جانب الطلبة الدارسين الذين يبدأون حياتهم الدراسية. الجنانيني قرر منذ البدء أن يكثف دراسته المتعلقة بالفن إضافة لاهتمامه بالثقافة التشكيلية العامة ، والغريب أنه منذ كان في السادسة عشر من عمره وكان يدرس كتب الطب والتشريح مثل الجماجم والعظام وما مثلها ، والتي استعارها من أخيه طالب كلية الطب آنذاك . إنسانيات تجربة "إنسانيات" بدأت منذ حوالي سته سنوات تم عرضها بلبنان في سنوات ماضية, وهي تعرض الآن ولأول مرة بمصر في أتيلية القاهرة, حرص فيها الفنان على تقديم تكنيك خاص بخامة الأكواريل, لوحة لأحمد الجنايني والجديد هو أنه انتج لوحات بمقاسات كبيرة جدا بهذه الخامة وأظهرها بشكل مختلف تماما عما تعود عليه فنانو الأكواريل, فهو يصالح على المسطح بين الكثير من الخامات, يبحث عن ملمس خاص جدا بأحمد الجنايني, يحافظ على نقاء الأكواريل وشفافيته العالية, بل ويخرج هذه الشفافية مع عتمات الخامات الأخرى المضافة للعمل, بحيث نستنشق من الملمس رائحة خاصة وفي النهاية تصبح خامة الأكواريل هي سيدة الموقف والخامات, مع المحافظة على كينوناتها كخامة شديدة الحساسية والشفافية لا تقبل الخطأ. تعامل الفنان في "إنسانيات" مع الإنسان الذي بداخله, حاوره, واوجد علاقات بين هذه الشخوص التي تنام بداخله تتداخل.. تتصارع.., وحدها, بحيث أننا نجد أحمد الجنايني الفنان هو نفسه الذي يمارس الحياة الطبيعية بشكل حقيقي, فهو يؤنسن كل شيء حوله ويرغب في أن يقترب الإنسان من إنسانيته وماهيته. وبسؤال الفنان عن عدم دعوته لأحد الشخصيات البارزة لإفتتاح معرضه قال: " في عملي الإبداعي أنا أتولى كل أموري لا أحد يتعب معي ولا يتحملني أو يستحمل مشاقاتي, إلا سيدة واحدة هي التي تساندني وتقف بجانبي وهي زوجتي التي تستحق بالفعل قص شريط الإفتتاح, فهي من افتتح المعرض لي" . الحياة صدمة للمبدع حين تحدثنا مع الفنان عن الصدمات التي واجهها في بداية مشواره الفني قال : الحياة بكليتها في المجتمع العربي صدمة فالفارق كبير بين حياة الإبدع ولغة الإبداع بشكل عام, وخصوصا حينما تعتمد على اللغة البصرية التي لا يعلم عنها مجتمعنا شيئا , نحن حتى الآن لا نعرف ماذا يعني فنان تشكيلي , ويسألك أحدهم : "بتشتغل إيه يعني؟ " , فالإبداع يتم التعامل معه بإعتباره شيئا هامشيا" . يضيف: " من الذي يشاهد الأعمال الفنية ، من الذي يقرأ الشعر ؟ ، مبدعونا هم وحدهم من يستمتع بإبداعه، وفي مجتمع عريق مثل مصر يبلغ عدد السكان 80 مليون نسمة ، إذا طبعت 500 نسخة لقصيدة فلن تتمكن من بيعها ، ولو أقمت 50 معرضا تشكيليا لن تبيع لوحة واحدة !! "إيزيس" حلقة وصل أختير أحمد الجنايني من قبل لبنان ممثلا عاما ل"سمبوزيوم أهدن الدولي" في مصر, يرشح الفنانين للمشاركة فيه وفي مهرجان الإبداع التشكيلي بلبنان, ويرجع الفضل في هذا للتعاون مابينهما وبين مركز "إيزيس" للإبداع والثقافة الذي أنشأه الفنان منذ حوالي خمسة سنوات في قرية منيه سمنود إحدى قرى محافظة الدقهلية, تبعد قرابة 10 كيلومترات عن محافظة المنصورة. محيط : ماذا عن مدينة "أهدن" والسمبوزيوم الدولي ..؟ الجنايني : "أهدن" مدينة في شمال لبنان على إرتفاع ما يقرب من 3000متر من سطح البحر, يقام فيها سنويا سمبوزيوم أهدن الدولي, يشارك فيه قرابة 200 فنانا تشكيليا من أنحاء مختلف العالم, لوحة لأحمد الجنايني يسافرون على هيئة أفواج كلا منهم يستغرق أسبوع أو أسبوعين, وهذا السمبوزيوم هو العلاقة ما بينه وبين "إيزيس". محيط : ما الأساس الذي تبني عليه اختيارك للفنانين؟ الجنايني: يجب أولا أن أضع في اعتباري مساعدة بعض الفنانين الذين لم يتح لهم فرصة السفر عبر وزارة الثقافة, فأنا أحاول أن أقوم بدور قريب من هذا. ويبنى الاختيار على ثلاثة شرائح حسب لائحة السمبزيوم وهم: فنان محترف و طلبة كليات الفنون وأخيرا فنان يدرس على يد فنان محترف, وأنا أحاول بقدر ما أستطيع أن أجمع بين الثلاث شرائح, وفي النهاية التجربة تسعى لمساعدة الفنانين على التعرف على تجارب الآخرين عبر فعالية تستمر ثلاثة شهور تقريبا تبدأ من يوليو حتى نهاية سبتمبر . محيط: ما التسهيلات التي يقدمها السمبوزيوم للفنانين؟ الجنايني: يتحمل السمبوزيم إقامة الفنانين بأكملها من مأكل ومشرب وغيره ، كما يوفر الخامات وكافة المستلزمات الأخرى , يبقى فقط تذكرة الطيران يتحملها الفنان ولكن بدعم من وزارة الثقافة للمشروع, وأنا حاليا أقوم بحوار مع إدارة السمبوزيوم اللبنانية في محاولة للمساهمة في الشق الخاص بتذكرة السفر . محيط : حدثنا عن المهرجان الدولي للإبداع في لبنان وما علاقته ب"إيزيس" ؟ الجنايني: مهرجان الإبداع هو الشق الثاني من نشاط "إيزيس" للإبداع والثقافة, فهناك بروتوكول التعاون الثقافي فيما بينه وبين بيت الفن في لبنان, وهي مؤسسة أهلية أيضا تمارس الإبداع في شتى مجالاته " فن تشكيلي, مسرح, موسيقى ....". محيط : من الفنانين الذين قدمتهم؟ الجنايني: من بينهم, الفنانة النحات د. محمد علاوي قام بعمل منحوته كبيرة جميلة جدا في طرابلس, الفنان د. إبراهيم غزالة أنتج مجموعة من اللوحات الجميلة عن مساكنطرابلس القديمة, ماهر كمال مؤسس فرقة إسماعيل الشعبية قدم 19 أغنية لسيد درويش, وعرض لرقصة التنورة على مسرح بيت الفن. محيط : ما هي الأنشطة المختلفة لإيزيس؟ الجنايني: أقدم عبر هذا المركز ما يسمى بالثقافة الإبداعية بوجه عام, سواءا فن تشكيلي, موسيقى, إقامة المعارض, ورش فنية للأطفال والفنانين, ندوات..... منها محاضرات عن الفن والمجتمع قدمها الناقد عز الدين نجيب, عن الموسيقي الراحل د. محمد حسن هيكل, عن الفنون التشكيلية قدمها الناقد مكرم حنين, وفي الثقافة قدها د. محمد حافظ دياب, والمفكر الكبير د. محمود إسماعيل. محيط: من الفنانين الذين استضافتهم إيزيس؟ الجنايني: استضفت معرضا تشكيليا لفنان لبناني كبير, وللفنان جورج العتيمي, نظمت معرض ل 21 فنانا من ثماني دولة عربية "مصر, لبيا, السودان, الأردن, السعودية, العراق ... أقمت ورشة عمل لفنان سعودي أقام أربعين يوما أنتج في هذه الفترة منحوتاته " نحت مباشر" وذهب لمنطقة شق الثعبان في القاهرة لإحضار خاماته "الرخام", وحضر الإفتتاح المستشار الثقافي السعودي. محيط: من يدعمك في مشروع "إيزيس"؟ الجنايني : تجربتي في المركز تجربة خاصة جدا ابتداءا من المكان الذي أجرته وأدفع إجاره شهريا, إلى المرسم الذي أمارس فيه العمل, وكل ما هو يتعلق بالمركز فهو لا يرتبط بأي مؤسسة حكومية أو خاصة. محيط : صف لنا "إيزيس" ؟ الجنايني : هو مكان تبلغ مساحته 120 متر تقريبا, به غرف لعمل الورش الفنية وإقامة الندوات..., يضم أيضا مرسمي الخاص, والزوار يعانون قليلا من ارتفاع الطابق ، رغم أني حاولت الانتقال لطابق أول أو ثان ، لوحة لأحمد الجنايني بالطبع كافة الأمور يتحكم فيها "البيزنس" في الوقت الراهن بعيدا عن الاعتبارات الثقافية , وصاحب العقار من الصعب أن أقنعه بأن أهمية هذا المركز لا تعود لي وإنما لجمهوره من سمنود ومن مصر ومن الخارج أيضا. محيط : لماذا اخترت منية سمنود تحديدا لإقامة المشروع ؟ الجنايني : سافرت كثيرا إلى أوروبا وغيرها, وكان من السهل أن أقيم هذا المركز بالقاهرة العاصمة, ولكني وجدت أن أنسب مكان له هو قرية منية سمنود, وذلك لهدف أنني أصنع خريطة جديدة للتلقي بالنسبة للفنانين المعروفين, لأن الفنان يأتي إليهم في قريتهم بفنه ، وتصبح الفائدة متبادلة . يواصل: بالإضافة إلى أن منية سمنود تستحق الأهتمام لأنها قرية تنام على النيل, تجمع بين الكثير من المتناقضات, خرج من بطنها الكثير من الفنانين, والمبدعين, والعلماء بشكل ملفت للنظر, ولا أدري كيف لا يتم الإشارة أليها, فمنها, د. محمد العلاوي, د. أحمد جاد, د. عادل شعبان, د. مأمون الشيخ, د. محمد حافظ دياب. وأفخر بهذه القرية وإنتمائي إليها ولم أتمن يوما أن أكون قاهريا . محيط : تسميتك للمركز ما دلالتها ؟ الجنايني: لقد أطلقت عليه اسم ابنتي, وهي فنانة لم تتعدى الثالثة عشر من العمر, تعمل بالأكواريل والباستيل والجواش تلك الخامات الصعبة, كما أنها ترسم على الكمبيوتر بالموس, وتستطيع تنفيذ لوحات تشعر أنها نابعة من فنان كبير, فأنا لم يحدث مني أي تدخل في عملها على الإطلاق. أضاف: أقتنى الفنان أحمد نوار منها لوحة انتجتها في ورشة عن أبناء لبنان, فهي ترسم طبيعة حية وصامتة وغير ذلك, عندها القدرة على ابتكار لون, عندما أراها أشعر بأني أرى نفسي عندما كنت صغيرا. محيط: يقال أن الفنون جنون, هل هذه المقولة صحيحة؟ الجنايني: الفارق ما بين الفنون والجنون هو شعرة رقيقة جدا, إذا رأيناها فنحن نمارس الحالة "ما يسمى به الفنون", أما إذا لم نلحظها هنا لا يكون هناك فارقا حقيقيا بينهما , هذا هو قمة التعايش الإبداعي وكماليات التوحد مع الحالة الإبداعية, وأنك تسير على حبل مشدود في منتصف المسافة بين الوعي واللاوعي.. الوجود واللاوجود, ما بين المتناقضات جميعها, هذا وأنت لا ترى الخيط الرفيع جدا جدا الفاصل بين الفنون والجنون.