بصرف النظر عن الانتصار الذى حققته روسيا بالسيطرة على مدينة باخموت فى الفترة الأخيرة، والذى لا شك سوف يرفع من معنويات القوات الروسية، رغم أن بريجوجين، رئيس مجموعة فاجنر، حاول أن يبدو فى الصورة باعتباره المحرر، وكأنما أراد أن يزايد على القيادة العسكرية الروسية الرسمية، وأنه سلم باخموت لقوات الجيش، وترك اثنين من رجاله مع قوات الجيش كان حريصًا على إظهارهما والتقاط الصور معهما. لكن هناك معارك أخرى يدركها ويفسرها المحللون العسكريون من خلال سير المعارك ومشاركة هذا السلاح أو ذاك فى المعارك ومدى النقلة النوعية التى يحدثها، وسوف نتحدث فى هذا المقال عن النقلات النوعية والتنافس بين الغرب وروسيا من حيث نجاعة وقدرات السلاح الذى ينتجه الجانبان، وللحقيقة فإن الغرب يحاول بقدر المستطاع إظهار قدراته العسكرية فى أبهى صورها فى أوكرانيا، حيث تشهد الأراضى الأوكرانية معرض سلاح غربى مع أرضية للتجربة والتقييم. وهناك تجارب عديدة مر بها العالم فى هذا الخصوص ولعل فى فترة الحرب الباردة كانت أولها حرب فيتنام والتى انتصر فيها السلاح السوفيتى على الأمريكى ثم أعقبها حرب 1973 بين العرب وإسرائيل وفيها أثبت السلاح السوفيتى وخاصة وسائل الدفاع الجوى السوفيتية نجاعتها وقضت على التفوق الجوى الإسرائيلى. لكن الأمريكيين لم يتركوا الأمر يمر هكذا دون توجيه ضربة مضادة من خلال أفغانستان والتى دخلها السوفيت لمؤازرة نظام موال عام 1979، إلا أنهم تورطوا فى حرب امتدت عشر سنوات، أمد خلالها الأمريكيون المجاهدين الأفغان بالسلاح، انتهت الحرب بانسحاب السوفيت وكان أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفيتى نفسه، إلى أن قامت روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتى بتوجيه ضربة مشابهة للأمريكيين فى أفغانستان ذاتها مما اضطر الأمريكيين للانسحاب بل والفرار من أفغانستان، بسبب إشاعة أن روسيا ستكافئ من يقتل الجنود الأمريكيين فى أفغانستان. واشنطنوأوكرانيا وأخيراً وجدت واشنطن ضالتها فى أوكرانيا، فقد شجعت على قيام الحرب من خلال تحريض القوميين الأوكران للقيام بانقلاب عام 2014 ضد الرئيس الأوكرانى فيكتور يانوكوفيتش الموالي لروسيا، إلى أن أوصلوا الأمور لما وصلت إليه الآن، وإذا كان شكل المعارك هو ما يهم المتابع لنشرات الأخبار ويقيس الأمور بالسيطرة على أمتار من الأرض هنا أو هناك، فإن للخبراء العسكريين حسابات أخرى، بمجرد أن تحدث البعض عن إسقاط الدفاعات الجوية الأوكرانية لمجموعة من الصورايخ من طراز "كينجال" الفائقة السرعة (تبلغ سرعتها ما يقرب من 9 أضعاف سرعة الصوت)، ورغم أن الأعداء تحدثوا فى صوت واحد على الانتصار الساحق على الأسطورة الروسية، فإن ضربة واحدة من "كينجال" قلبت موازين القوى. "كينجال" و"باتريوت" على سبيل المثال تحدثت الدورية العسكرية السياسية الأمريكية "ميليترى ووتش" عن معركة "كينجال" و"باتريوت" على أرض أوكرانيا، تحت عنوان لا يخلو من مغزى "لماذا تعطى ضربة الكينجال للباتريوت الأمل لكوريا الشمالية؟" تحدث المقال عن تفاصيل فنية لا تعنى القارئ العادى غير المتخصص، وسنتحدث هنا وفق الدورية الأمريكية فقط عن الإمكانيات الواقعية لهذا النوع أو ذاك من الأسلحة وهما "كينجال" وهو صاروخ جو أرض فائق السرعة وصواريخ "باتريوت" الأمريكية وفخر الصناعة الأمريكية بين وسائل الدفاع الجوى . فبعد إطلاق رشقة من عشرات الصواريخ بعضها "كينجال"، تمت إصابة بطارية باتريوت، ونشر عدد من البلوجرز الأمريكيين لفيديوهات تؤكد ذلك، تم على أثرها اعتقالهم وتضطر وسائل الإعلام الأمريكية والأوكرانية للاعتراف بحدوث أضرار فى بطاريات الباتريوت، وأنه يمكن إصلاحها فى الموقع، ولم يكلف الجانب الغربي نفسه الحديث عن قدرات بطاريات الدفاع الجوى ومدى قدرتها، وربما خجل الجانب الأمريكى من الحديث عن تدمير بطارية الباتريوت بالكامل وأن الأمر يحتاج لإعادة تقييم لمواجهة الصواريخ الفائقة السرعة الروسية. هذه المعركة (فى أوكرانيا) يمكن القول بأنها كانت مواجهة بين اختبار حقائق قديمة حول إمكانية اختراق حائط الصواريخ الأمريكى ونوع حديث فائق السرعة من الصواريخ الموجهة مثل (كينجال) و(إسكندر إم) الروسيين، هذا النوع من الصواريخ الروسية لديه قدرة كبيرة على المناورة أثناء الطيران، هذه الميزة بعيدة تماماً عن إمكانيات منظومة باتريوت للاعتراض، حيث يستطيع الصاروخ "كينجال" تفادى 32 صاروخ (باتريوت) تطلق عليه من الأرض ويصيب منظومة باتريوت، وهو ما أثبت قدرة هذه الصواريخ على إصابة بطاريات باتريوت. سلاح إستراتيجي ويبدو أن المعارك الدائرة على الأرض الأوكرانية ستكون درساً لدول مثل كوريا الشمالية المهتمة بتطوير سلاح إستراتيجى، وكذلك الصين، حيث لم تحدث مواجهات من قبل بين أسلحة هاتين الدولتين مع أسلحة أمريكية على نطاق واسع أو على فترات طويلة، كما أن الدولتين متأخرتان عن روسيا فى إنتاج الصواريخ فائقة السرعة، والولاياتالمتحدة من جانبها تتحدث عن تقدم فى هذا المجال، لكن الجميع لم يصل إلى ما وصلت إليه سرعة الصواريخ الروسية. وبعيداً عن الحوار الدائر فى سماء أوكرانيا بين وسائل الدفاع الجوى الغربية وليس الباتريوت فقط، هناك حديث عن ما يعرف بتحالف القاذفات، والذى يهدف لتزويد أوكرانيا بالطائرات القاذفة والمقاتلة الحديثة، التحالف الجديد مكون من فرنساوبريطانيا وهولندا ومن المتوقع أن تنضم له دول أخرى أوروبية، حتى الآن لم يحصل هذا التحالف على طائرات أو مد أوكرانيا بأى طائرات، لكنه فى الوقت الحالى يدور الحديث عن تدريب الطيارين الأوكران على الطائرات الغربية وخاصة إف 16 والتايفون البريطانية. الطائرات الأمريكية وبصرف النظر عن مسألة إمداد أوكرانيا بطائرات مقاتلة حديثة من عدمه، فى تقدير بعض الخبراء، أنه بعد النقاش الواسع حول إمداد أوكرانيا بدبابات ليوبارد – 2 وغيرها من المدفعية الصاروخية، وإعلان بريطانيا عن إمداد أوكرانيا بصواريخ "ستورم شادو" البعيدة المدى نسبياً ثم الحديث عن طائرات، نجد أن حلف الناتو بدوله الأعضاء يتحسسون طريقهم للانغماس فى المعارك على الأرض الأوكرانية لكن حتى الآن لم تحدد هذه الدول موقفها بشكل نهانى وكل ما تفعله هو تحسس خطاها ببطء لمعرفة رد الفعل الروسى على أى تدخل مباشر. لكن يبدو أن الدب الروسى بدأ يستشعر الخطر فأسرع بإرسال سلاح نووى تكتيكى إلى الأراضى البيلاروسية. مسألة حصول أوكرانيا على طائرات أصبحت مسألة وقت، وربما بريطانيا تساهم بطائرات "تايفون" البريطانية، هذا بالطبع بخلاف تزويد كييف بطائرات إف – 16، غير أنه فيما يتعلق بالنوع الأخير من الطائرات يتطلب الأمر موافقة الولاياتالمتحدة الدولة المنتجة، وهناك انقسام داخل واشنطن بهذا الخصوص، لأن الأخيرة لا تريد الصدام المباشر مع موسكو، على أى حال كلنا يذكر تاريخ تزويد أوكرانيا بالمدفعية الصاروخية الأمريكية من طراز هايمرز، ومن بعدها الدبابات الألمانية ليوبارد، وفى نهاية الأمر هذه المعدات تشكل نواة القوات الأوكرانية الصلبة. لأنه لا الولاياتالمتحدة ولا حلف الناتو سيسمح بهزيمة السلاح الغربى وروسيا فى نفس الوقت لن تسمح بهزيمة سلاحها أمام السلاح الغربى، وهذا ما قد يدفع الناتو للتدخل المباشر. المطالب الأوكرانية الغرب يواجه مشكلة فى سقف المطالب الأوكرانية، ومن الواضح أن القيادة الأوكرانية وضعت حلفاءها فى الغرب فى مأزق عندما تحدثت عن بدء هجوم مضاد على القوات الروسية، لكنها ورغم حصولها على أكثر من 90% من احتياجاتها من السلاح، لكنها لم تفعل شيئا حتى الآن، ناهيك عن الخسائر التى يتكبدها الغرب نتيجة فرض المزيد من العقوبات على روسيا، وربما هذا هو السبب الذى جعل المبعوث الصينى يطالب الدول الأوروبية بالاعتراف بأن منطقة الدونباس جزءًا من روسيا، لم يكن ليجرؤ المبعوث الصينى لأوروآسيا أن يقول هذا لولا أنه يشعر بما يعانيه الأوروبيون وبلاده كذلك اقتصادياً، وهذا إن دل فيدل على أن العالم يريد بالفعل إنهاء النزاع من خلال تقديم تنازلات. هجوم مضاد بعد سيطرة روسيا على باخموت لا توجد أى شواهد على أن أوكرانيا ستشن هجومًا مضادًا، ولا روسيا التى خرجت مجهدة من معركة باخموت ترغب فى الوقت الحالى تطوير هجومها لدفع القوات الأوكرانيا للخلف حتى لا تطال أسلحتها الدونباس، كما طلب الرئيس بوتين، وبعد ذلك يمكن تجميد النزاع، وتكون روسيا قد حققت مرادها واستعادت جزءًا من أراضى الإمبراطورية التى أهدرت فى اتفاق بريست، وعلى طريقة حرب الشتاء مع فنلندا 1939 – 1940، عندما أراد ستالين استعادة فنلندا التى كانت جزءًا من الإمبراطورية الروسية وتخلى لينين عنها بمقتضى اتفاق بريست، إلا أن روسيا اقتطعت جزءًا من أراضيها هو كاريليا واحتفظت به وهى الآن جزء يتمتع بالحكم الذاتي داخل الاتحاد الروسى. ورغم رفض القيادة الأوكرانية، فإن النزاع قد يدخل مرحلة الجمود فى الفترة القادمة، فالعقوبات الغربية لم تحقق المراد منها، وتحقيق تقدم لافت على الأرض أصبح صعب للجانبين الروسى والأوكرانى، وإن كان البعض يتحدث الآن عن حرب مدن بين روسياوأوكرانيا، وذلك بعد غارة قامت بها مجموعة مسلحة على منطقة بيلجورود، وهجوم بمسيرات على مقاطعة كراسنودار، وبالطبع روسيا تقوم بقصف للمدن بشكل يومى لإجبار أوكرانيا على التفاوض، فهل تتسع حرب المدن خاصة أن أوكرانيا قد تحصل على صواريخ بريطانية يمكنها الوصول للمدن الروسية الحدودية معها. الأمور مفتوحة على كافة الاحتمالات لكن الذى لا شك فيه أن الطرفين أجهدا على كل الأصعدة.